الخميس 9 مايو 2024 مـ 09:16 صـ 1 ذو القعدة 1445 هـ
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
رئيس مجلس الأمناء مجدي صادقرئيس التحرير محمود معروفأمين الصندوق عادل حسين

أمريكا الخائنة لأصدقائها عبدالحليم قنديل

عبد الحليم قنديل
عبد الحليم قنديل

كعادتهم الفطرية فى بلوغ الحقيقة من أقصر طريق ، تعود المصريون العوام على إطلاق صفة "أمريكانى" ، كلما صادفهم شئ أو سلوك زائف ، كأن يخون محامى موكله مثلا ، أو أن ترسل محكمة إعلان دعوى لمتهم مفترض على غير عنوانه ، أو أن يدعى أحدهم انجازا أو اختراعا ، ثم يثبت أنه مجرد "فنكوش"، أو أن يبالغ أحد فى مظاهر التقوى والخشوع ، ثم يثبت أنه شيخ الفجار ، وقس على ذلك كل دعوى كذوب ، وقد لا يكون الأمريكيون وحدهم من يفعلونها ، ففى السياسة مصالح دائمة لاعدوات ولا صداقات دائمة ، كما قال "ونستون تشرشل" ذات يوم ، لكن الطابع "الأمريكانى" صار كالختم الرسمى والماركة التجارية المسجلة . وهكذا كان الأمريكيون ويكونون ، مع التحفظ فى التعميم طبعا ، فقد وفدت وتفد أقوام كثيرة إلى أمريكا كبلد مهجر ، لكن الأساس الذى بنيت عليه هذه "الأمريكا" ، كان فاسدا بامتياز من أى وجهة نظر أخلاقية ، فقد قامت أمريكا على أنقاض حياة "الهنود الحمر" ، وقتل الرواد الأوائل عشرات ـ ربما مئات ـ الملايين ، بالسلاح والخداع والاغتصاب وسفك الدماء ، ، وبدهس واستعباد ملايين الزنوج ، وكانت تقوم كل فترة بدورات من غسل الضمائر ، من "إبراهام لينكولن" محرر الزنوج ، الذى انتهت قصته بالاغتيال ، إلى الرئيس "ليندون جونسون" ، الذى اضطر لإصدار قوانين العدالة والمساواة بعد اغتيال الزعيم الزنجى "مارتن لوثر كينج" ، ومن دون أن يرى أحد حتى اليوم ، أو يشم رائحة المساواة ، فى بلد قائم على سيادة ضمنية وظاهرة لل "واسب" ، أى البيض الأنجلو ساكسون البروتستانت ، بصفتهم صناعا أصليين للمذبحة الأعظم فى التاريخ البشرى ، ولم يكن لدى الأمريكيين ، حين انتقلوا من "مبدأ مونرو" القاضى بأولوية السيطرة على الحدائق الخلفية فى الأمريكتين ، إلى هدف الهيمنة على الكون كله بعد الحرب "العالمية" الثانية ، لم يكن لهم أن يقنعوا أحدا بمزايا أخلاقية تخصهم ، فلجأوا لإقناع الدنيا كلها بمزايا أخلاق الخضوع ، والخوف من رعب الموت الجماعى بتدمير "هيروشيما" و"نجازاكى" بالقنابل النووية ، وادعوا أن الدمار الذرى كان الطريق الإجبارى لصناعة عصر السلام الأمريكى ، وكلما رفع أحدهم رأسه اعتراضا أو تحديا ، عاجلوه بحرب إفناء ، ومن هنا سقط القناع ، وتوارى وهم أمريكا الضاحكة الغنية ، التى تغدق على المساكين بفوائض قمحها ودولاراتها ، وبأسلحتها التى بدت كأنها لا تقهر ، لكن أمريكا التى انكشفت كذبتها فى وعى العالم المعاصر ، راحت تتلقى الضربات ، وكانت الهزائم الثقيلة من فيتنام إلى أفغانستان ، وراحت تخون أصدقائها وتابعيها ، من حكام "سايجون" إلى حكام أفغانستان ، وكان هروب جيش افغانستان ، الذى صنعته أمريكا على عينها ، ثم هروب "أشرف غنى" الذى نصبته رئيسا لأفغانستانها ، ثم هروب الجيش الأمريكى المحتل لأفغانستان قبل سنتين ، وتركها لأصدقائها وخدامها إلى المصير المحتوم ، كان التصرف "الأمريكانى" عاديا وعفويا ، فهى لا تعرف صديقا ولا حليفا ، إلا أن يكون مفيدا لمصالحها ، ثم ترميه فى لحظة الضيق إلى أقرب سلة مهملات ، وهذا ما تكرر ويتكرر فى أربع جهات المعمورة ، وفى منطقتنا بالذات ، والأمثلة فوق أن تحصى ، لكنها تتجدد هذه الأيام ، خذ عندك ـ مثلا ـ مايجرى بين أمريكا وإيران ، الأخيرة تعتبر أن "واشنطن" هى الشيطان الأكبر ، لكنها لا تمتنع عن ملاعبته ، وواشنطن تبادل طهران براجماتيتها بالسلوك نفسه مزادا منقحا ، ولم يعجب أحد عاقل من الصفقة الأخيرة المعروفة بتبادل السجناء ، التى تحصل طهران بموجبها على سجنائها مقابل خمسة من السجناء الأمريكيين ، وتحصل ـ فوق الصفقة ـ على عشرة مليارات دولار ـ أو أكثر ـ من أموالها المحتجزة لدى أصدقاء أمريكا ، ولا نجادل هنا فى ذكاء المفاوض الإيرانى ، ولا حتى فى مدى صلابة النظام الإيرانى المشتبك فى عراك مع أمريكا عبر أكثر من أربعين سنة مضت ، فطهران تحصل على بعض أموالها المحتجزة ظلما وعدوانا ، لكن الصفقة التى تبدو كغنيمة لإيران ، قد تتلوها صفقات أكبر ، تسقط القناع عن الوجه الأمريكى القبيح ، الذى يوهم الآخرين باعتباره راعيا لقيم الحرية والعدالة الإنسانية ، وقدم ويقدم نفسه لبعض العرب كجدار حماية ضد التغول الإيرانى ، ثم يبيعهم عند أقرب ناصية ، ويخونهم وبراءة الأطفال فى عينيه ، ويواصل ابتزاز ثرواتهم التريليونية ، وتزيين "التطبيع" مع "إسرائيل" باعتباره طوق النجاة ، فى مسلسل لا ينتهى من الأكاذيب والخيانات المفضوحة ، وللحق والحقيقة ، فإن أمريكا الخائنة لأصدقائها ، وإن كانت تخص العرب بعنايتها الفضلى ، فإنها لا تحرم من خياناتها أحدا فى الدنيا الواسعة ، حتى من أصدقائها وتابعيها الأوروبيين الأقربين ، فقد دبرت عملية تفجير خطى "نورد ستريم" لنقل الغاز الروسى الرخيص لأوروبا ، ثم راحت تبيع غازها المسال للأوروبيين بأربعة أو بستة أضعاف السعر ، ومن دون أن نلقى بالا لجراح الاقتصاد الأوروبى ، الذى أرهقته تكاليف حرب أوكرانيا ، وحتى قبل نشوب هذه الحرب بشهور ، كانت أمريكا تخون فرنسا ، وتتفق مع بريطانيا واستراليا على إنشاء تحالف "أوكوس" فى مواجهة الصين ، وإلى هنا قد يكون الأمر مفهوما على خرائط الصدام العالمى الجديد ، لكن أمريكا صدمت فرنسا ، ودفعت استراليا لإلغاء صفقة غواصات مع باريس عقدت عام 2016 ، وأحلت محلها صفقة غواصات تعمل بالطاقة النووية مع واشنطن ولندن ، وخسرت فرنسا صفقة الأربعين مليار دولار ، وهو ما اعتبرته فرنسا "طعنة فى الظهر" ، لم يرتعش لها جفن أمريكا ، واكتفت بابتسامة صفراء فى وجه الرئيس الفرنسى "إيمانويل ماكرون" ، الذى يعانى هذه الأيام من خيانة أمريكية جديدة فى قلب أفريقيا هذه المرة ، وفى انقلاب "النيجر" الأخير ، كانت "النيجر" مستعمرة فرنسية ، وظلت كذلك حتى بعد جلاء الاستعمار "الكولونيالى" عام 1960 ، تضع رجالها فى الحكم بانقلابات أو بانتخابات ، وإلى أن أطاح أخيرا الجنرال "عبد الرحمن تشيانى" بالرئيس "محمد بازوم" رجل فرنسا فى "النيجر" ، التى كانت "منجم اليورانيوم" الأرخص لفرنسا ، فوق وجود قواعد عسكرية لباريس ، هربت إلى "النيجر" بعد طردها من "مالى" و"بوركينا فاسو" ، وحاولت فرنسا الدفع لغزو عسكرى يطيح بقادة النيجر الجدد ، الذين قرروا من طرفهم إلغاء الاتفاقات الأمنية والعسكرية مع فرنسا ، وقرروا وقف تصدير "اليورانيوم" لمفاعلات فرنسا النووية الكهربية ، لكن جهود فرنسا ظلت تتعثر ، وخذلها قادة المنظمة الاقتصادية لغرب أفريقيا "ايكواس" ، الذين يقدمون رجلا ويؤخرون عشرة فى خطة ردع حكم الجنرال الجديد ، الراغب فى نجدة روسية وربما صينية ، لكن واشنطن الخائنة كعادتها ، ضربت صفحا عن رغبات فرنسا الملحة ، وتمتنع حتى تاريخه عن وصف ماجرى فى "النيجر" بالانقلاب العسكرى ، وتقيم علاقات معقدة مع جنرالات "نيامى" ، ربما إعدادا لانقلاب معاكس عند الحاجة ، أو التفاهم مع من بيدهم الأمر رعاية لمصالحها هى ، وليس لمصالح فرنسا ، الذاهبة بأثر من الريح الأفريقية الجديدة ، الكارهة لأى وجود لباريس ، فيما راحت واشنطن تشيح بوجهها عن "أختها" فرنسا ، وتتحدث علنا عن أولوية "الحل الدبلوماسى" ، صيانة لمصالحها وقواعدها فى "النيجر" ، ولا مانع عندها ـ ببساطة ـ من ذهاب فرنسا إلى الجحيم . وقد فعلتها أمريكا ، وكذبت وخانت الأصدقاء والعملاء ، حتى فى سيرة إيران نفسها ، عندما أطاحت بحكم الشاه الموالى للأمريكيين ، وحاول الشاه المخلوع اللجوء لرعاية ومكافأة نهاية خدمة فى واشنطن ، لكنهم رفضوا أن يفتحوا له بابا أو شباكا ، ورفضوا حتى أن يقدموا له فرصة راحة طبية من مرضه العضال الأخير ، وانتهى به الحال إلى الدفن فى مصر أواخر أيام الرئيس السادات ، وتكررت القصة ذاتها بصور متنوعة ، وعبر مئة دولة تدخلت بها أمريكا ، التى تجد نفسها اليوم عاجزة عن إخفاء طبعها الغريزى فى الكذب وخيانة الأصدقاء ، ولن يعجب أحد ، إن باعت واشنطن عميلها الأوكرانى "فولوديمير زيلينسكى" ذات يوم قريب ، فقد تغير العالم ويتغير فى صخب جارف ، لكن أمريكا هى ذاتها لم تتغير ، وظلت هى "الطاعون أمريكا" بوصف الشاعر الفلسطينى الراحل المرموق "محمود درويش" ، داومت على طبعها الوبائى فى السياسة العالمية ، مع أحاديثها المضجرة عن القيم والقواعد والقوانين والديمقراطية وغيرها من مساحيق التجميل ، التى لا يصدقها سوى البلهاء والعملاء ، فهى لا لاتعرف الحق بصفته ، ولا تعرف الباطل بصفته ، بل ما يضرها ويدمى أصابعها هو الباطل ، وما ينفعها هو الحق عندها ، ولا ضرر ولا ضرار عندها ، إن هى ألقت بأصدقائها طعاما لخصومهم ، وخيانة "العيش والملح" عادتها الأصلية ، وداء ولدت به وعليه تموت . [email protected]