الإثنين 13 مايو 2024 مـ 08:34 مـ 5 ذو القعدة 1445 هـ
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
رئيس مجلس الأمناء مجدي صادقرئيس التحرير محمود معروفأمين الصندوق عادل حسين

خطر هلاك السودان عبدالحليم قنديل

عبدالحليم قنديل
عبدالحليم قنديل

أكتب هذه السطور عشية اجتماع "القاهرة" لدول جوار السودان ، ونخشى أن تنتهى سيرة الاجتماع الجديد إلى ما انتهت إليه اجتماعات "أديس أبابا" و"جدة" من قبلها، فلم تصمت المدافع ، ولا هدأت الحرب المهلكة فى شوارع الخرطوم بمدنها الثلاث ، ولا توقف امتداد الشرارات الدموية غربا إلى ولايات "دارفور" ، وإلى شرق السودان ووسطه فى "كردفان" وولاية "النيل الأزرق" ، مع فشل مزمن فى تطبيق اتفاقات وقف إطلاق النار ، ورهان لا يتحقق على حسم طرف للحرب بالقوة العسكرية ، وذهاب لإشعال الحرائق فى هشيم التنوع العرقى والقبلى ، فى بلد شاسع المساحة عظيم الموارد ، وجوار متفجر بحروبه الأهلية الطاحنة من ست جهات ، باستثناء مصر المستقرة أمنيا ، وصاحبة العلاقة التاريخية الخاصة مع السودان . وقد تكون "القاهرة" تأخرت ، وانتظرت مضى ثلاثة شهور على إطلاق الرصاصة الأولى ، ربما لاعتبارات معقدة ، تأخذ فى اعتبارها حساسية أطراف سودانية موبوءة ، وقد بدت "القاهرة" الرسمية حريصة على لغة تهدئة وحياد معلن ، برغم أنها المتضرر الأكبر من النار التى تأكل السودان ، ليس فقط بحكم المصالح والروابط الاستراتيجية والنيلية التى تجمعها مع السودان ، بل بآثار الحرب المجنونة الجارية ، التى قتلت إلى اليوم آلافا مؤلفة ، وشردت الملايين من النازحين واللاجئين ، كان طبيعيا أن يتزاحموا على أبواب مصر الجنوبية ، وأن يصل عدد اللاجئين السودانيين الجدد فى مصر إلى قرابة 300 ألفا ، يضافون إلى نحو خمسة ملايين سودانى مقيم فى مصر قبلها ، برغم إجراءات التنظيم وربما التقييد ، التى تراعى مضاعفات أزمة اقتصادية يعانيها المصريون ، فوق أثقال وتبعات ما يجرى فى السودان ، وتقييده لحركة السياسة المصرية تجاه مشكلة سد الدمار الأثيوبى ، وبرغم حسن وفادة المصريين للأشقاء من السودان ، كما مع ملايين الأشقاء العرب والأفارقة اللاجئين ، إلا أنك لا تعدم وجود علامات تبرم أحيانا ، وقد لا تكون هذه هى المشكلة الكبرى اليوم ، وإن كان التخوف ساريا من استطراد ما يجرى فى السودان ، وبما دفع السياسة المصرية المتباطئة إلى نوع من التحرك الحذر ، زادت ضروراته بعد فشل وساطات دولية وإقليمية وأفريقية ، كان آخرها وساطة منظمة "إيجاد" ، التى تضم السودان نفسه مع "جنوب السودان" و"أثيوبيا" و"كينيا" و"جيبوتى" ، وكان طريقها ملغوما ، حتى قبل أن تعقد اجتماع "أديس أبابا" الأخير ، وتولى الرئيس الكينى الجديد "ويليام روتو" رئاستها ، وهو المعروف بتعصبه المسيحى الإنجيلى ، كما بصداقته وعلاقاته الانتفاعية مع "محمد حمدان دقلو" ـ حميدتى ـ قائد ما يسمى "قوات الدعم السريع" ، وبولائه المطلق للسياسة الأمريكية والبريطانية ، وقد ذهب "روتو" إلى أبعد تهجم ممكن على الجيش السودانى وحكومة الجنرال "عبد الفتاح البرهان" ، وطلب بصراحة تأليف حكومة سودانية فى المنفى ، وإسقاط أى اعتراف بالحكومة القائمة ، وإخراج الأطراف السودانية جميعا من الخرطوم ، ووضع العاصمة تحت احتلال ما يسمى "قوات شرق أفريقيا" ، أى تحويل السودان إلى "صومال" آخر ، وكان مفهوما ومتوقعا ، أن تعارض الحكومة والجيش السودانى ، وأن تمتنع عن المشاركة بوفدها فى اجتماع "أديس أبابا" ، وزادت الطينة بلة ، مع تصريحات "آبى أحمد" رئيس الوزراء الأثيوبى ، الذى طالب بحظر تسيير الطيران العسكرى وعمل المدفعية فى السودان ، وهو ما فضح النوايا الباطنة لمؤامرة ظاهرة على السودان ، تريد أن تفسح المجال لحرب أهلية مفتوحة فى السودان ، تكتب شهادة وفاته كدولة مستقلة ، وتمزقه إلى دويلات تحكمها ميليشيات ، وتيسر مطامح ومطامع دول جوار فى الوصول لغاياتها ، فلا يخفى على أحد ، أن أثيوبيا مثلا ، تريد أن تمحو وجود الجيش السودانى وقيادته ، وبالذات بعد استعادة الجيش لأغلب نواحى منطقة "الفشقة" الخصبة زراعيا على الحدود ، بعد أن اعتادت "أثيوبيا" وعصاباتها "الأمهرية" على استغلال أراضيها بقوة الأمر الواقع ، وبتغاضى حكومات "البشير" المخلوع عن العدوان الأثيوبى المتصل لعقود طويلة ، وهكذا انكشفت كل الأوراق المخفية ، فلم تكن كل الوساطات السابقة خالصة النية ، وفى "جدة" واجتماعاتها مثلا ، بدت المملكة السعودية أحرص على كسب الهدوء فى السودان ، لكن المشاركة الأمريكية كان لها قصد آخر ، ظهر فى تعمد التعامل على قدم المساواة بين الجيش السودانى والمتمردين من قوات "الدعم السريع" ، وامتنعت السياسة الأمريكية علنا عن إعطاء أى أفضلية "شرعية" للجيش السودانى ، برغم كثافة تقارير الميديا الأمريكية عن علاقات جماعة "حميدتى" مع "فاجنر" الروسية ، لكن مقاصد واشنطن الهدامة فى السودان تغلبت ، فهى لا تريد للحرب فى السودان أن تتوقف ، ولا تريد لدولة السودان أن تقف على حيلها ، ولا أن تتغلب على تمرد الميليشيات ، والعينة بينة من سنوات مضت ، حتى بعد ذهاب حكومة "البشير" ، فقد دعمت واشنطن أدوار ما يسمى البعثة الأممية فى السودان "يونيتامس" ، التى كان رئيسها الألمانى "فولكر بيرتس" نسخة أخرى من "بول بريمر" الحاكم الأمريكى للعراق بعد احتلاله ، بل عمل "بيرتس" سابقا فى مكتب "بريمر" نفسه ، وتحول إلى حاكم فعلى للسودان ، يؤلف المبادرات ، ويتستر بدعم أمريكى بريطانى نرويجى من وراء ما يسمى "قوى مدنية" ، جرى إغراقها بالجنسيات الأجنبية والأموال والامتيازات وصولا لما أسمى بالاتفاق الإطارى ، الذى أتاح لملياردير مناجم الذهب المسروق "حميدتى" ، أن يلعب لعبته ، وأن يبدو فى صورة الزعيم الديمقراطى (!) ، الذى يرفض دمج قواته "الدعم السريع" فى صلب الجيش السودانى ، ويتجه بدعم خفى وظاهر من أطراف إقليمية ودولية ، إلى تنفيذ انقلابه على الجيش و"البرهان" صباح 15 أبريل الماضى ، وحين أخفقت هجمات الصدمة والرعب فى قتل "البرهان" ، وفى السيطرة على مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية ، أو إعلان "حميدتى" لنفسه قائدا لعموم القوات المسلحة ، حين فشلت الضربة الأولى ، وطردت قوات "الدعم السريع" من مطار "مروى" فى الشمال ، بدأ "حميدتى" حرب الاستنزاف المتصلة حتى اليوم فى مدن الخرطوم ، وتحول الرهان إلى وجهة أخرى ، هى السيطرة لأطول فترة ممكنة على مقار الشرطة والوزارات والهيئات والمرافق فى الخرطوم ، وتحطيم كل مظاهر وجود الدولة ، وفتح أبواب السجون ، والاستيلاء على منازل المواطنين ونهب ممتلكاتهم ، وإشاعة الفوضى فى عموم السودان ، بدءا من ولايات "دارفور" ، المنشأ الأصلى لعصابات "الجنجويد" ، التى جاء منها "حميدتى" تاجر الإبل ، الذى لم يتجاوز فى تعليمه دروس المرحلة الإبتدائية ، واستدعاه "البشير" ، وجعله جنرالا فى حرب "دارفور" ، التى اتصلت لعشرين سنة ، وراح فيها مئات الآلاف من الضحايا ، أضيفوا إلى ملايين القتلى فى حرب الجنوب ، التى انتهت بانفصاله ، وما يريدونه اليوم هو مواصلة حروب التفكيك ذاتها ، ودفع الوضع فى "دارفور" التى تجاوز مساحتها جغرافيا "فرنسا" ، إلى انفصال جديد ، يخطط له أن يمتد إلى "كردفان" و"النيل الأزرق" وغيرها ، حيث تنشط جماعة "الحركة الشعبية" جناح "عبد العزيز الحلو" ، المنضم بكامل قواته إلى الخطط والمصالح الأثيوبية فى تدمير السودان ، وهكذا تندلع نيران تلتهم أطراف السودان ، ولا تستبقى منه غير شماله الملاصق لمصر ، وربما أجزاء من "الخرطوم" وولاية "الجزيرة" ، وبدعوى استحصال كل الأعراق والقبائل على حقوقها و"دولها" فوق جثة السودان ، ولا بأس عندهم ، من إضافة توابل "ديمقراطية" و"علمانية" على طبخة الموت المستعجل . ومفتاح الدمار كله ، أو سلامة ما تبقى من السودان فى المقابل ، هو مصير الجيش السودانى ، فقد ولد السودان منذ استقلاله بعاهة ملازمة ، هى ضعف الدولة المركزية فيه ، وضعف تناسب حجمها مع اتساع مساحة البلد وتنوع ثرواته وأعراقه ، وموارد الخطر فيه وعند أطرافه ، ولا قيامة للسودان بغير جيش قومى محترف جامع وقوى ، يكون عمودا فقريا لدولة أقوى ، لا تقوم ديمقراطية حقيقية بغير وجودها ، فالديمقراطية لا تنشأ ولا تبنى فى فراغ دولة ، والمجتمع لا يأمن ولا يتطور ويندمج فى ظل تعدد الجيوش والميليشيات ، ونشرها لخوف ورعب وجودى ، يعيد الناس إلى احتماء بعصبيات وقبليات وعرقيات أصغر ، أو يحملهم على الهروب بالجملة من بلادهم ، على نحو ما يجرى بعضه اليوم ، ويتفاقم مع تتابع شهور الحرب الجارية فصولها ، وهدفها الأول هو تحطيم الجيش ودفن معنى الدولة ، وكل جهد جاد يسعى للتهدئة ووقف إطلاق النار ، عليه أن يساعد السودان أولا فى تجنب مصائر الهلاك ، فانفجار السودان كله لا قدر الله ، لا يترك من فرصة لأحد فى جواره أن يغمض عينيه ، ولا أن يأمن على شعبه وسلامة وجوده ، وهذا هو بعض التحدى الذى تواجهه "القاهرة" اليوم ، فإما أن يكون السودان موحدا وقويا ، أو لا تكون مصر بأفضل حال . [email protected]