الإثنين 20 مايو 2024 مـ 08:32 صـ 12 ذو القعدة 1445 هـ
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
رئيس مجلس الأمناء مجدي صادقرئيس التحرير محمود معروفأمين الصندوق عادل حسين

على اسم الشهيد ”محمد صلاح” عبدالحليم قنديل

عبد الحليم قنديل
عبد الحليم قنديل

أيا ما كان اختلاف الروايات والأقوال فى قضية الجندى المصرى "محمد صلاح" ، فقد دخل تاريخ مصر الوطنى من أوسع الأبواب وأعظمها قداسة ، وصار شهيد مصر وفلسطين والأمة كلها ، وقد كانت فلسطين وستبقى قضية وطنية مصرية ، وفى حروب مصر مع كيان الاحنلال الإسرائيلى ، ارتقى مئة ألف شهيد وجريح ومعاق ، يضاف إليهم اليوم اسم الشاب الشهيد "محمد صلاح إبراهيم " ، عامل "الألوميتال" ، وقد جاوز العشرين ربيعا ، والذى تبدو ابتسامته الخفيفة فى صوره المنشورة ، كما لو كانت منتزعة من قلب كسير ، ربما كعامة المصريين ، الذين ترهقهم بطولة البقاء المكافح على قيد الحياة ، لكنهم فى لحظة الخطر وملاقاة العدو ، ينقلبون أسودا ، ويجترحون بطولات إعجازية ، على طريقة البطل "محمد صلاح" ، الذى حارب وحده ، وعلى مدى جاوز الخمس ساعات ، وببندقية "كلاشينكوف" وسكين عسكرى ، وواجه كتيبتين من جيش الاحتلال ، وقتل ثلاثة جنود ، وأصاب آخرين بينهم ضابط كبير برتبة "عميد" . وقد لا يعرف أحد ، ماذا كان يدور برأس "محمد صلاح" ، وهو يتحرك بعد الفجر ، ويقص بسكينة العسكرى روابط بلاستيك ، كانت تغلق معبر الطوارئ فى معبر "العوجة" على حدود مصر مع فلسطين المحتلة ، وينطلق وحيدا فى صحراء "النقب" ، ويدوس التضاريس القاسية على طول 5 كيلومترات ، ويطلق رصاصه القليل المصوب بدقة ، فيقتل جنديا وجندية من جيش العدو ، ويكمن بين الصخور لساعات طويلة ، وإلى أن تكتشفه طائرات العدو "المسيرة" ، وتبعث جحافل من قواتها لقنصه ، فلا تكون النتيجة ، غير قتل جندى "إسرائيلى" ثالث وربما رابع ، وجرح قائد القوة المعادية ، ونيل "محمد صلاح" شرف الشهادة على صخرة الصحراء المقدسة . وقد لاتعنينا كثيرا روايات "إسرائيل" عن الحادث ، ولا وصفها للشهيد بأنه "مخرب" و"إرهابى" ، فهذه هى اللغة االوضيعة المعتادة ، التى وصلت بوزير فى حكومة الاحتلال ، إلى وصف "محمد صلاح" بالقاتل "الحقير" ، فلم يعرف العالم ولا تاريخ البشرية ، لم يعرف أحد شخصا أحقر من هذا الوزير "إتمار بن غفير" ، وهو من البلطجية وأرباب السوابق ، الذين اعتادوا واستمرأوا انتهاك حرمة المسجد الأقصى الشريف ، وقيادة حملات دهس وقتل الأطفال والنساء وإعدام الأسرى ، وهو يعد نفسه وزيرا للأمن وقائدا للشرطة ، وكأن آيات الدنيا انقلبت على أعقابها ، وصار "الحرامى" هو نفسه "الشرطى" ، وقد سرق "بن غفير" وأجداده وطنا بكامله ، وأمعنوا فى التنكيل بأهل الوطن الأصليين ، وتعاموا ويتعامون عن أم الحقائق ، وهى أن الاحتلال جريمة لا تسقط بالتقادم ، وأن صاحب الحق لن يفرط فيه ، ومهما توالت المظالم والأجيال ، وهم يعرفون بسالة جيل "محمد صلاح" فى فلسطين ، الذين يموت الواحد منهم واقفا ، وكشجرة زيتون مغروسة فى التراب المقدس ، تؤتى أكلها كل حين ، وكلما صعدت روح أحدهم إلى بارئها الجليل ، نبتت شجرة جديدة ، تواصل التحدى مع رياح الظالمين المعتدين السارقين للأحلام والأوطان . والفلسطينيون لا ينسون وطنهم ولا حقوقهم ولا عذابهم ، يموت الأجداد ويموت الآباء ، لكنهم يتركون مفاتيح البيوت المسروقة ، ويعلقها الأحفاد تمائم فى رقابهم ، وتسرى فى عروقهم روح الثأر مما كان ويكون ، وكذلك "محمد صلاح" المصرى ، الذى قالوا له ويقولون ، أن مصر الرسمية عقدت "معاهدة سلام" مع إسرائيل من 44 سنة ، وأن الأعداء صاروا أصدقاء ، ويحجبون عنه ذكريات ماجرى فى "سيناء" التى يحرس حدودها ، وارتوى كل شبر فيها بدماء المصريين ، لكن "محمد صلاح" الشاب رهيف الروح ، الذى كان يحب الرسم ويستعيذ من الفقر ، ويحمل فى جيبه مصحفا كعامة المصريين ، لم يكن بحاجة لمن يذكر ويعظ ، فهو يرى بعينيه فظاعات وأهوال ، ولا يجد ردا ولا إنصافا للضحايا ، ولا سعيا للعدالة وكسبا للحقوق ، ويقرر ألا ينتظر أحدا ، ويقدم روحه فداء للأمة المنكوبة ، ولا يجد فرقا بين مطاردة مهربى المخدرات وقتل سارقى الأوطان ، ويختاره مصيره عن سابق عمد وإصرار ، ويقرر فى سلاسة ، أن يعبر الحواجز مع أول طلعة شمس ، وأن يتحول من شاب عادى جدا ، تنطق ملامحه بالخجل والحياء ، ويتحول إلى بطل فوق العادة ، يستعيد صور وأمجاد أبطال حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر ، وسير أبطال "منظمة سيناء العربية " وأبطال قوات الصاعقة العظام ، وهو الذى لم يتلق تدريبهم ، لكنه يحمل ذات جيناتهم ، فهو فقير مثلهم ، لا يعرف راحة العيش ، لكنه يحمل ذات الروح الأغنى ، فالفقراء هم الذين "عبروا" وحرروا ، ثم جاء الآخرون الذين "هبروا" ، وعزفوا أناشيد السلام المشروخة ، بينما لا سلام ولا كلام يقنع ، وبينما الخطر محيط وداهم ، وبينما وجود "إسرائيل" فى ذاته خطر على الوجود المصرى فى ذاته ، فالقضية أبعد من الحدود التى كلفوه بحراستها ، والقضية فى صلب وفى متن الوجود بكرامة ، وللذين وقعوا الاتفاقات والمعاهدات أن يحرسوها ، بينما سواد المصريين يدرك الحقيقة ببساطة ، وعلى الفطرة الوطنية النقية ، تماما كما أدركها الشاب المصرى نبيل الطلعة "محمد صلاح" ، وتماما كما أدركها من قبل أبطال "منظمة ثورة مصر" الناصرية قبل نحو أربعين سنة ، وتماما كما أدركها شاب مصرى مجند اسمه "سليمان خاطر" ، تكاد ملامحه تطابق ملامح "محمد صلاح" ، وبذات الابتسامة المنتزعة من خشونة الحياة ، وقد قرر أواسط ثمانينيات القرن العشرين ، أن يدافع عن كرامته بسلاحه ، وقتل وقتها سبعة إسرائيليين ، وتحول إلى أيقونة وعلامة على رفض التطبيع أو التكيف مع العدو ، تماما كما فعل أبطال "ثورة مصر" معه وقبله ، وأداروا عملا بالغ الاحترافية لقتل عملاء "الموساد" والمخابرات الأمريكية فى شوارع القاهرة ، وتماما كما فعل الشهيد الأول "سعد إدريس حلاوة" ، الذى قرر التمرد بشخصه ، وتحرك احتجاجا على فتح أول سفارة لإسرائيل فى القاهرة ، وقتلته وزارة داخلية "السادات" ، ولم تضع الدماء سدى ، فقد "فرملت" قطار التطبيع فى مصر ، وأوقفت مع مظاهرات الوطنيين كل صور التطبيع العلنى المتبجح ، وصار التطبيع عرفا جريمة سالبة لشرف من يقترفها ، ولا يجرؤ أحد على البوح بها ، وإن فعل ، فمصيره النبذ والاحتقار الشعبى ، أو الفصل من النقابات المهنية والعمالية ، التى قررت كلها حظر أى اتصال شعبى بالعدو ، وكانت النتائج ، أن التطبيع فى مصر صار كاللهو الخفى ، تحصره السلطات فى أجهزتها الأمنية ، وفى اتفاقاتها المرفوضة عن "الغاز" و"الكويز" ، ولا تسمح بتطبيع "شعبى" من خارجها ، ربما لأنها تدرك عمق كراهية المصريين للسياسة الإسرائيلية وراعيتها الأمريكية ، وفى حوادث تلت اضطرار السلطات لمنع المشاركات الإسرائيلية فى "معرض الكتاب" و"المعرض الصناعى" والمهرجانات الفنية وغيرها ، بدا أن طابور الفداء المصرى الكاره للتطبيع تتصل حلقاته ، وأقدم الجندى المصرى "أيمن حسن" على قتل ما يزيد على عشرين جنديا إسرائيليا عند نقطة حدود "رأس النقب" ، جرى الحادث أوائل التسعينيات ، وبعده بنحو عشرين سنة ، أقدم الشباب المصرى على اقتحام وحرق السفارة الإسرائيلية بالقاهرة أواخر 2011 ، ومن وقتها ، لم يعد للعدو من مقر مستقل لسفارته ، وصار منزل السفير بحى "المعادى" هو نفسه مقر السفارة ، وظل السفير فى وضع المنبوذ المعزول ، لا يزور ولا يزار ، فالتطبيع مكروه شعبيا ، ومن أغلبية المصريين الساحقة ، والسلطات نفسها تدرك ذلك على تعاقب الأنظمة ، وربما لذلك ، بدت حذرة متحفظة فى التصرف مع قضية البطل الجديد "محمد صلاح" ، وحاولت مد "شعرة معاوية" مع الشعور الشعبى الكاره لسيرة العدو الإسرائيلى والمناصر بحماس لبطولة الجندى ، وكان الصمت الغالب هو سيد المسرح فى الإعلام الرسمى ، وإن لفت النظر خروجا استثنائيا عن قاعدة الصمت المعمم ، تمثل فى مداخلات محدودة ، كان عنوانها مداخلة اللواء "سمير فرج" ، وقد كان فى السابق مديرا للشئون المعنوية فى القوات المسلحة المصرية ، وكان مسئول الإعلام فى "المجلس العسكرى" الحاكم عقب ثورة 25 يناير 2011 ، وهو معروف بصلاته الظاهرة مع من بيدهم الأمر فى مصر اليوم ، وكان لافتا أنه وصف "محمد صلاح" على نحو يليق ، وقال عنه أنه أدى واجبه "عشرة على عشرة" ، ونعته بالشهيد والبطل كما يستحق ، فيما بدا كخروج على النص الرسمى الصامت ، الذى يحاول الموازنة بين اعتبارات العلاقات الرسمية مع دولة "إسرائيل" ، وبين الشعور الشعبى الذى يعرف حقيقته ، وكرامة الجيش الذى ظل على عقيدته القتالية ، ويدرك أن الخطر الأكبر يأتى لا يزال من الشرق ، ويستعد لاحتفالية كبرى فى الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر 1973 . [email protected]