الخميس 2 مايو 2024 مـ 05:30 مـ 23 شوال 1445 هـ
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
رئيس مجلس الأمناء مجدي صادقرئيس التحرير محمود معروفأمين الصندوق عادل حسين

طريق الآلام السودانى عبدالحليم قنديل

عبد الحليم قنديل
عبد الحليم قنديل

متى تتوقف الحرب الجارية فى الخرطوم ؟ ، وهل من أفق أفضل للسودان مع وقف شامل مستدام لإطلاق النيران ؟ ، تبدو التمنيات الطيبة مفهومة ومبررة أخلاقيا ، لكن الواقع يمضى للأسف فى اتجاه معاكس ، فعبر ثلاثة أسابيع من الاقتتال حتى اليوم ، توالت "الهدن" واتفاقات كف النار ، ومع ذلك جرى اختراقها جميعا ، وكل طرف يتهم خصمه ، وحتى لو جرى تمديد "الهدن" إلى أسبوع أو حتى أسابيع ، فقد لا يعنى ذلك إمكانية التوصل إلى حل بالتراضى ، فطبيعة المعركة صفرية ، ولا نهاية لها بغير إنهاء كابوس وجود جيشين حاكمين فى السودان ، فكل بلد مستقر فى الدنيا له جيش واحد ، وإلا صار الأمر فوضى دامية ، وميليشيات تتنازع وتتقاتل بلا نهاية . ولم يعد شئ مما جرى خافيا ، فقد بدأ الاقتتال الحالى منذ 15 أبريل الفائت ، وكان الهدف ظاهرا ، وتصور محمد حمدان دقلو "حميدتى" قائد ما يسمى "قوات الدعم السريع" ، أن القصة ستنتهى فى دقائق أو حتى فى ساعات ، وأنه سيفوز بحكم السودان وقيادة الجيش ، وهو ما يفسر أسلوب "الصدمة والرعب" الذى استخدمه ، وانقضاض قواته على الحرس الرئاسى ، وعلى حماية الجنرال "عبد الفتاح البرهان" القائد العام للقوات المسلحة السودانية ، وبهدف قتله أو اعتقاله ، لكن الأمور جرت بغير ما اشتهى "حميدتى" ، ونجا "البرهان" رئيس المجلس السيادى ، واعتصم بغرف مبنى "القيادة العامة" ، وبجنرالات الجيش ، الذين أداروا الحرب باحتراف ملحوظ ، وتحركوا بطول وعرض السودان وولاياته ، ونجحوا فى طرد قوات "حميدتى" من قاعدة "مروى" فى الشمال ، ومن كل القواعد والمعسكرات والمطارات ، اللهم إلا من متاعب تبقت فى مطار "نيالا" بدارفور ، ومن مطار العاصمة الخرطوم طبعا ، وقد تعطل تماما ، وتحطمت أغلب الطائرات المدنية السودانية والأجنبية فيه ، بسبب الاشتباكات الدائرة داخله وحوله ، كما حول "القصر الرئاسى" ، وفى مدن الخرطوم الثلاث (الخرطوم والخرطوم بحرى وأم درمان) ، فيما لجأ شتات "الدعم السريع" إلى الأحياء السكنية المكتظة ، بعد إجلائهم قسرا عن 11 معسكرا كانت لهم فى الخرطوم وما حولها ، وهو ما يعنى ببساطة ، أن الهدف الأول للحرب العبثية جرى إفشاله ، وإن كانت معاناة أهل الخرطوم تتفاقم ، فقد انهار الأمن تماما ، واتقطعت أغلب الخدمات ، وجرى غلق أغلب المستشفيات والصيدليات والمخابزوالمتاجر ومحطات المياه والوقود ، ونهبت البنوك ، وتفشى السلب والقتل والترويع ، واقتحام كل السجون وإطلاق كل المجرمين العتاة ، وتضاعفت أسعار السلع وأجور الانتقال إلى حدود جنونية ، وتوالت قوافل الراغبين فى النجاة من الجحيم ، وصار أغلب حرص ما يسمى "المجتمع الدولى" ، أن يسحب رعاياه ودبلوماسييه ويغلق السفارات ، وطغت قصص إجلاء العرب والأجانب ، تماما كما قصص النزوح واللجوء الواسع فى طرق الآلام عبر حدود السودان مع سبع دول مجاورة ، وانتهينا إلى وضع بالغ التعقيد ، فكل يوم يمر يفاقم خطورة المأساة ، ولم يسبق للسودان على كثرة حروبه الأهلية ، أن واجه وضعا كهذا منذ استقلاله الرسمى فى يناير 1956 ، جيشان رسميان يتقاتلان فى العاصمة نفسها ، ففى عام 2008 ، كان الوضع مختلفا ، وصد الجيش هجوما على "أم درمان" من "حركة العدل والمساواة" القادمة وقتها من "دارفور" ، وكانت النتيجة محسومة سريعا لصالح الجيش ، لكن قوات "حميدتى" كانت موجودة فى كل الخرطوم قبل بدء الاقتتال ، وبعديد يصل إلى نحو 50 ألفا ، وبكامل أسلحتها و2500 عربة دفع رباعى ، ومتمركزة إلى جوار جنود الجيش فى كل المراكز السيادية ، وفى قلب مبانى القيادة العامة ذاتها ، إضافة لما جاءها من مدد إضافى ، وفى ساعة الصفر حدث الغدر المفاجئ ، وبرغم صدور قرار لاحق من "البرهان" بحل تشكيلات "الدعم السريع" ، وسحب ضباط الجيش وحرس الحدود والشرطة المنتدبين إليها ، إلا أن الفأس كانت وقعت فى الرأس ، وانتشرت "قوات الدعم السريع" فى كل أنحاء العاصمة ، واعتقلت عددا كبيرا من ضباط الجيش من منازلهم ، واحتجزت أسرهم كرهائن ، كما تستخدم المدنيين كدروع بشرية ، وهربت من غارات سلاح الجو السودانى ، وتحركت فى مجموعات صغيرة بالشوارع الداخلية ، وواصلت القنص من أعلى المبانى ، ولا تزال تشكل تهديدا لكل المرافق السيادية وسط الخرطوم ، فوق الاستيلاء على أغلب المرافق الخدمية ، وهو ما يعجز الجيش عن استخدام فوائض قوته وأسلحته الثقيلة خوفا على حياة وممتلكات المدنيين ، فى الوقت الذى تمضى فيه عمليات التطهير ببطء ، مع تكرار الوعود بالتصفية النهائية لتمرد "قوات الدعم السريع" ، وفى آجال قدرها الجنرال ياسر العطا ـ مثلا ـ بنحو أسبوعين إضافيين ، يدخل فيها عمر الاقتتال إلى شهره الثانى ، مع محاولات جر الحرب إلى مناطق أخرى فى "دارفور" وغيرها ، وإلى احتراب أهلى واسع النطاق . وبرغم النبل الأخلاقى لنداءات وقف الحرب فورا ، وما قد يكون من نوايا طيبة لبعض وساطات دولية وإقليمية جارية ، لكنها لن تؤدى إلى سلام أو استقرار فى السودان فيما نظن ، فالمأساة الراهنة كوابيس سودانية داخلية الأسباب أساسا ، وان استثمر فيها آخرون بالمنطقة والعالم ، والحل ينبغى أن يكون سودانيا خالصا أيضا ، فقد نشأت ظاهرة قوات "حميدتى " بقرار من الرئيس السودانى المخلوع "عمر البشير" ، وجرى التواطؤعلى التوسع فيها بعد ثورة ديسمبر 2018 ثم ذهاب "البشير" ، وزاد الجنرال "البرهان" الطينة بلة ، حين ألغى المادة الخامسة من قانون إنشاء "قوات الدعم السريع" ، وبما أعطى "حميدتى" استقلالية أكثر فى التصرف بعيدا عن قيادة القوات المسلحة ، والاستطراد فى بناء امبراطوريته الخاصة ، والاستغلال الشخصى لمناجم الذهب الغنية فى "دارفور" و"كردفان" ، وانتفاخ ثروته الشخصية والعائلية ، وبناء شبكة علاقات إقليمية ودولية تخصه ، ومن وراء ستار صفته الرسمية كنائب لرئيس مجلس السيادة ، وتحويل "قوات الدعم السريع" إلى جيش منفصل عن الجيش الأصلى ، وهكذا صار "حميدتى" تاجر "المواشى" السابق مليارديرا ، إضافة لصفة "الفريق أول" الممنوحة له جزافا ، فالرجل لم يتلق تعليما مدنيا يجاوز شهادة المدرسة الابتدائية ، ولم يتلق تعليما عسكريا من أى نوع ، وأغرته سيولة المشهد السودانى ، واستشراء النفوذ الأجنبى الأمريكى والأوروبى"الأممى" فى أوساط جماعات مدنية ، فاندفع بذكاء انتهازى فطرى إلى رفع ما يرددون من شعارات ، وطرح نفسه كزعيم ديمقراطى منقذ مقابل استبداد منسوب إلى "البرهان" ، وإلى تنفيذ خطة أطراف إقليمية باستبدال وتفكيك الجيش السودانى ، وجعل ميليشيا "الدعم السريع" جيشا بديلا ، وكان"حميدتى" يأمل أن ينهى القصة سريعا ، يوم بدأ الحرب فى 15 أبريل 2023 ، وبهدف إزاحة "البرهان" من طريقه ، وكان الأخيروافق فيما يسمى "الاتفاق الإطارى" الأخير ، أن يترك السلطة تماما للمدنيين ، بل أن "البرهان" كما قال ، عرض أن ينسحب بشخصه من المشهد ومعه "حميدتى" ، ورفض "حميدتى" ، تماما كما رفض خطة قصيرة المدى لدمج "قوات الدعم السريع" فى صفوف الجيش ، ورغب فى إطالة المدة لعشر سنوات مقبلات ، لا يتبع فيها قيادة الجيش ، ويحكم من وراء ستار رأس دولة مدنى ، ثم اختار الطريق الأقصر إلى غاية طموحه ، بتصفية وجود الجيش نفسه ، والانفراد بالساحة العسكرية ، وطرح نفسه كما لو كان أبا راعيا للديمقراطية ، يدافع عما أسماه "خيار الشعب" ، وكأن زعيم ميليشيا إجرامية ، يصح له أن يكون زعيما للشعب ، مستفيدا من ضعف وتفرق وتهافت كثير من القوى والأحزاب المدنية ، ورغبة بعضها فى أن يحكم البلد مباشرة ، وبدون إجراء انتخابات عامة ، وفى مرحلة انتقالية متعثرة متطاولة الوقت ، حتى لو كان الثمن تفكيك السودان نهائيا ، وهو ما بدا من سلوك أطراف سياسية طافية على سطح الحوادث ، تدعى أنها تريد وقف الحرب الجارية بالعاصمة الخرطوم ، وتدعو لتفاوض يستبقى مستقبل "حميدتى" ودوره ، وقد تكون بعض هذه الأطراف حسنة النية ، وقد تكون تدرك أو لا تدرك ، أن القصة ليست فى بقاء "البرهان" أو ذهابه ، بل فى مصير الجيش السودانى نفسه ، وهو المؤسسة الوحيدة ذات الطابع الوطنى الجامع ، وحجر الزاوية فى التطلع لبناء دولة مركزية أقوى فى السودان ، لا تقوم بدونها أى ديمقراطية ذات معنى ، فلا ديمقراطية تقوم فى فراغ دولة ، والسودان باتساع مساحته ووفرة موارده وتنوعه القبلى والعرقى الكثيف ، وتداخل حدوده مع دول حروب أهلية فى غالبها ، قد يذهب إلى نهايات التفكيك ، وتكتب شهادة وفاته لا قدر الله ، إن لم يكن له جيش واحد محترف على أساس التجنيد القومى العام ، فلا تقوم دولة بجيشين ، ولا بميليشيا حرفتها القتل وغايتها النهب . [email protected]

موضوعات متعلقة