الخميس 28 مارس 2024 مـ 04:14 مـ 18 رمضان 1445 هـ
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
رئيس مجلس الأمناء مجدي صادقرئيس التحرير محمود معروفأمين الصندوق عادل حسين

محمد الباز يكتب: هارون.. أمير شهداء سيناء

قال أحدهم يومًا: «كلمة مدح واحدة أسمعها فى حياتى خير من قصيدة من ألف بيت عن سيرتى يقرأها الناس بعد وفاتى دون أن أعرف عنها شيئًا».
حكمة فيلسوف قديم.
لن تكون مخطئًا أبدًا إذا قلت إنه عجوز أيضًا.
كان يشعر بأنه منح البشرية ما يبقيها برونقها وتألقها وألقها، فألحّ على الناس أن يبتسموا فى وجهه قبل أن يرحل.. فما الذى يعود عليه من جبال الثناء لو توالت عليه وهو راقد تحت التراب؟
أعجبك ما قاله.. تؤمن به وتصدقه، تلتمس له العذر الكامل، وتتضامن معه بشكل تام، وتقول: لديه حق.
أعرف أنك قلت شيئًا من هذا لنفسك ولو على سبيل العزاء لراحل كان يبحث فى عيون الآخرين عن لمحة تقدير.
لكن ما رأيك فيما فعله من لا تعرف أسماءهم.. لم تصافح وجوههم فى الشوارع، ولم تجلس إليهم على المقاهى، ولم تصادفهم فى مكاتب الحكومة المكيفة؟
ربما تكون توقفت قليلًا عند ملامحهم على شاشة عابرة.
سمعت طرفًا من بطولاتهم فى برنامج أو احتفال.
نزلت دموعك وأنت تتابع أمًا ثكلى أو زوجة مكلومة أو ابنة وحيدة وهى تتألم شوقًا لطلة من عيونهم بعد أن غابوا.. أو للمسة من أيديهم بعد أن رحلوا.. أو لبسمة حانية بعد أن تبخرت ضحكاتهم التى كانت تملأ الدنيا.
ورغم ذلك يظل ما تعرفه عما قدموه زهيدًا جدًا.
ما فعله شهداؤنا يفوق ما تتخيله، ويتجاوز حكمة الفيلسوف العجوز.. واحتياجه الذى يمكن أن يكون ساذجًا أو سطحيًا.
إنهم لا يهتمون أبدًا لا بما يقال عنهم فى حياتهم، ولا يلقون بالًا لما يمكن أن نتحدث به عنهم بعد أن يرتقوا إلى السماء.
شباب يبحثون عن الموت، يرتحلون وراءه أينما حل أو أقام، ليمنحونا الحياة كاملة، فلولا مئات ممن كتبوا ملحمة البطولة على أرض مصر كلها، وليس سيناء فقط، بدمائهم، ما كنت جلست آمنًا لأكتب إليك بعضًا من سيرتهم، وما كنت أنت جلست مسترخيًا وأنت تطالع بعضًا من حكاياتهم.
هذا بعض من حق الشهداء علينا.
محاولة للإمساك بسيرتهم وحكايا حياتهم.
ليعرف من يأتون بعد ذلك أن هذه الأرض التى باعها نخاسون بثمن بخس.. اشتراها أبناؤها الأبطال بدمائهم، وهو أغلى ثمن.
وليعرف من سيعيشون فى وطن مستقر آمن.. أنه لولا ما قدمه الشهداء من تضحيات بأرواحهم.. ما كان أمنًا ولا كان استقرارًا.. ولا كان وطنًا.
أعرف عن يقين أن الشهيد لن يسعد بتكريمه ولا بالاحتفاء بأهله.
لن يسعد إذا كتبت عنه مئات المقالات.. وأهديت له عشرات الكتب.
سيسعد فقط إذا حافظنا على ما ضحّى من أجله.
ما أفعله هنا محاولة لرد الجميل لمن منحونا حياتنا دون أن يحصلوا منا على مقابل.. أى مقابل.. وهى محاولة بما أستطيع.. بعض من كلمات علّها تشفع لنا عندهم.
هل أدلكم على بطل وهبته الحياة أنقى ما فيها، فلم يبخل بما لديه على أبنائها، فقدم روحه من أجلهم، دون أن يطالبهم بأن يغنوا من أجله، أو يزفوه إلى مقره ومستقره؟
هل أرشدكم إلى بطل كان يغازل الموت كل صباح، لا يهابه، بل يبحث عنه ويطارده ويغنى له أغنية الشهيد الذى يأبى أن يكون ذاك الموت نهايته، بل بدايته الجديدة التى ينسجها على عينه؟
إنه بلا مواربة محمد هارون.
لا تقل لى إن الاسم لم يمر عليك ولو بشكل عابر، فمثله لا تغفله العين، ولا تتغافل عنه الروح.
يقولون إنه «أمير الشهداء».. وهو كذلك.
أما لماذا هو كذلك، فهذه قصة طويلة، لا يعرف عمقها إلا من عاشها، ولا يمكن أن يحكى عنها إلا من عايشها.
هنا أحاول..
مجرد محاولة لتتبع سيرة بطل، خرج من بنى سويف وهو مقدّم ولم يعد إليها إلا وهو شهيد يحمل رتبة عقيد.. الرتبة التى لن يناديه أحد بها، هى مجرد رتبة شرفية حصل عليها بعد الشهادة وليس بدورة تدريبية أو اجتياز اختبار كان عليه اجتيازه.. فقد اجتاز ما هو أكبر وأعظم وأعمق.. اجتاز الحاجز ما بين الحياة والموت.

لم يكن هذا الطفل البرىء يعلم أنه وبعد ٣٦ عامًا، هى كل سنوات عمره، سيصبح «أمير شهداء سيناء».. وأنه لن يستمتع برنين من يرددون على مسامع بعضهم البعض هذا اللقب، وإن كان عزاؤه أن ألقابًا أخرى ستطارده.
قابلوه كثيرًا وهو يسير بثقة على رمال سيناء، اعترفوا له بفضله، لم يخفوا إعجابهم به، ولا ثقتهم فيه.
كان «أسد الصحراء» بحق.
وكان «صائد التكفيريين» بحق.
أنضجته الأقدار على مهل، لم تتعجله، ولم تدفع به دفعًا إلى مصيره المرسوم، بل انتظرته حتى جاءها على موعد.
فى ١٩ سبتمبر ١٩٧٩ ولد محمد إبراهيم هارون فى بنى سويف.
لم يكن فى حياته شىء غير عادى، أتم دراسته الابتدائية فى المدرسة القومية الخاصة، وأنهى دراسته الإعدادية فى المدرسة الحديثة بنين، وبدأ يتكشف طريقه بعد أن أكمل دراسته الثانوية فى مدرسة الشهيد نورالدين عبدالعزيز العسكرية.
هل كان فيما جرى توافقًا من نوع ما؟
هل سأل هارون عن هذا الشهيد الذى تحمل مدرسته اسمه؟
مؤكد أنه فعل ذلك.
كان نورالدين عبدالعزيز واحدًا من أبطال حرب أكتوبر وشهدائها.
اسمه بالكامل نورالدين عبدالعزيز عبدالغنى، عندما صدرت الأوامر بخوض الحرب فى أكتوبر ١٩٧٣، كان عميد أركان حرب قائد اللواء ٣ مدرع.
انطلق بقواته ليهاجم مسافة ١٢ كيلومترًا فى سيناء ناحية ممر «متلا»، واشتبك مع العدو الإسرائيلى فى معركتين كبيرتين من معارك أكتوبر.. ولم يتراجع إلا بعد أسر كتيبة إسرائيلية مدرعة.
رأى محمد هارون فى روح الشهيد نورالدين نفسه.
قرأ عنه أنه تقدم باللواء ٣ المدرع لتطوير الهجوم من خلال الفرقة ١٩ مشاة، وأقام مركز قيادته أمام قواته ليعطى لجنوده الحماس والقدوة والتضحية بالنفس، وفجأة أُصيب المقر بضربة مباشرة من قوات العدو جعلت منه شهيدًا.
ارتقى نورالدين إلى السماء فى ١٤ أكتوبر ١٩٧٣.
كان الولى.. وكان هارون المريد، لم يخلف وعده، ارتقى إلى السماء شهيدًا فى ١٢ نوفمبر ٢٠١٥.
يفصل بين الشهيدين ٤٢ عامًا.
لم يتغير فيها شىء.. ظلت عقيدة المقاتل المصرى كما هى، يقود جنودًا بنفسه، لا يصدر إليهم الأوامر وينتظر التنفيذ، بل يسبقهم إلى النصر أو الشهادة.
هل تعرفون ما الذى كان يقوله محمد هارون لجنوده وهو خارج ليواجه جحافل الجماعات الإرهابية فى سيناء؟
كان يقول مخلصًا وصادقًا: من يُرِد الموت فليخرج معى الآن؟
مقاتلٌ هو.
لم يركن إلى مقتضيات وظيفة، بقدر ما تفاعل مع أولويات رسالة وهب نفسه لها من بدايات عمره.
عندما تخرج فى كليته- دفعة ٩٣ حربية- فى العام ١٩٩٩، كان يعرف أن مهمة أيامه القادمة شاقة، فالكلية التى يتخرج فيها أبناؤها وهم يعرفون أن مهمتهم هى القتال ويؤمنون بذلك، يكونون على قناعة بأنهم وبمجرد أن يتسلموا عملهم يودعون وادى الراحة.
هل أدلكم على مصادفة قدرية؟
عندما كان محمد هارون طالبًا فى الكلية الحربية، وبحكم ترتيب الحروف الأبجدية، وجد نفسه ينام على نفس السرير الذى كان ينام عليه الرئيس السادات عندما كان طالبًا فى نفس الكلية.
قد يكون ما جرى مصادفة بحتة.
لكن ولأن من تختارهم الحياة على عينها لا مكان للمصادفة أبدًا فى مشوارهم، فإنها أقرب إلى الإشارة.. فهارون مات على أرض سيناء شهيدًا، وهى الأرض التى دفع السادات حياته ثمنًا لاستردادها سلامًا بعد أن خاض الحرب من أجلها.
واصل محمد هارون عمله، حتى جاءت لحظة المكاشفة، التى وضعت أمامه أصل القضية.
وطن يتعرض للخطر الكامل، ولا بد أن يتقدم أبناؤه للحفاظ عليه.
كان هارون واحدًا من أبناء الجيش المصرى الذين نزلوا إلى الميادين فى ٢٨ يناير ٢٠١١ وما تبعه من أيام.
كانت مهمة الجيش المصرى واضحة، لا اعتراض على مطالب الشعب العادلة، بل المساندة التامة والكاملة، انطلاقًا من أن الجيش جيش الشعب الذى لا يمكن أن يتخلى عنه.
من دفتر ذكريات محمد هارون عن أيام التحرير أنه كان يعمل وقتها فى المركز الإخصائى بدهشور، نزل ميدان التحرير، يقول: لم أنس مهمتى التى جئت من أجلها، لكننى حاولت احتواء مواقف الشباب الغاضب، كما تواصلت مع أصحاب المحلات المغلقة بفعل الفوضى التى تمكنت من كل شىء.
كانت الأعصاب ساخنة وملتهبة، ورغم أن أحدًا لم يكن يسمع لصوت العقل فى هذه الفترة، إلا أن هارون استطاع فى مساحة خدمته أن يتواصل مع الجميع وينزع فتيلًا كاد أن يشتعل بين شباب المعتصمين فى الميدان وأصحاب المحلات.
لم تكن هذه هى المهمة الوحيدة التى قام بها هارون.
بعد خطاب الرئيس الأسبق مبارك، مساء ١٠ فبراير ٢٠١١، الذى أعلن فيه تمسكه بالسلطة وتفويض نائبه السيد عمر سليمان فقط بسلطاته، غادر المعتصمون ميدان التحرير إلى قصر الاتحادية، هتفوا بإصرار: «بكره بعد العصر مبارك بره القصر».
تم تكليف محمد هارون بالتوجه إلى قصر الاتحادية لتأمين المشهد كله.
كان الخطر يراود الجميع، وكانت التوقعات تسير فى اتجاه أنه يمكن اقتحام القصر والتعامل بعنف مع مبارك، إلا أن قيادة الجيش الحكيمة بدّلت المشهد تمامًا، فقد وجد المتظاهرون من يستقبلهم بالورود، فى إشارة إلى أن كلمة الشعب هى العليا.
غسلت هذه اللحظة روح محمد هارون تمامًا.
أدرك أنه أمام شعب مسالم وجيش عظيم.. لا أحد يريد أن يهدم هذا الوطن، فهدمه لن يكون إلا على رءوس أبنائه فقط، وقد تكون هذه اللحظة نفسها هى التى عززت عقيدته فى مواجهة جيوش الظلام التى تريد أن تختطف هذا الوطن الذى بذل الجميع كل ما يملكون من أجل الحفاظ عليه.
تمر الأيام على هارون وهو يؤدى واجبه متنقلًا من مكان إلى مكان، حتى استقر به الحال فى سيناء، ليصبح اسمه هناك مثل دوى الطبل.
ما بين نهايات العام ٢٠١٣ وبدايات العام ٢٠١٤ أصبح اسم المقدم محمد هارون مقابلًا لكلمة الموت التى ترفرف حول أعضاء الجماعات الإرهابية، ولا يزال رجاله يذكرون ما تم التقاطه من إشارات كان يبثها قيادات هذه الجماعات وهى تفر من أمامه: اركض.. اركض.. دورية أبوهارون فى الطريق.
كان قائد كمين الجورة أسدًا صمد فى مواجهة الجماعات الإرهابية التى استهدفت مقره ومستقره بهجمات متتالية، وكل مرة كان يقهرهم، حتى زرع اليأس فى قلوبهم، ووصلوا إلى قناعة بأن وجود هذا القائد يحول بينهم وبين كل ما يريدونه، ولم يكن غريبًا أن يعلنوا عن مكافأة مالية كبيرة لمن يأتيهم برأسه.

تصادف الأقدار أصحابها.
ولأنه لا يتم شىء فى كون الله إلا بمراده، كان لا بد أن تكتمل الأسطورة، وهو ما جرى فى صباح ١ يوليو الذى توافق مع ١٤ رمضان من العام ٢٠١٥.
فى هذا اليوم قررت الجماعات الإرهابية احتلال الشيخ زويد بالكامل بمهاجمة ما يزيد على ١٥ كمينًا فى وقت واحد، تمهيدًا لرفع أعلام علم داعش البغيضة عليها، وإعلانها إمارة إسلامية.
لم تكن هذه الخطة سرية، بل تسربت إلى وسائل إعلام عالمية، ولم يكن غريبًا أن تبث قناة «الجزيرة» القطرية العميلة خبرًا فى ساعات الصباح الأولى يقول إنه تم اقتحام جميع كمائن سيناء ووصل عدد القتلى بالجيش المصرى إلى ٨٠، وتم رفع أعلام داعش السوداء على كمينى السدرة وأبورفاعى.
لم يكن الخبر صحيحًا بالمرة، ولكنه كان استباقيًا، خططت «الجزيرة» من ورائه إلى ضرب الروح المعنوية للجيش والشعب المصرى فى آن واحد.
اعتمدت القناة العميلة على بيانات الجماعة الإرهابية التى أعدتها قبل أن تنفذ عمليتها، وهو ما وقع فيه بعض وسائل الإعلام المصرية دون وعى.
يومها كنت أباشر عملى فى صالة تحرير جريدتى اليومية، وجاءنى محرر قسم الإسلام السياسى ببيان داعش عن العملية.
قلت له: هل جننت؟
هل سنأخذ أخبار معركة يخوضها الجيش المصرى من فم أعدائنا.
انتظرنا ما يقوله المتحدث الرسمى عن هذه المعركة، التى كانت فاصلة بالفعل فى تاريخ حرب مصر ضد الإرهاب.
لم يكن ما يدور على أرض سيناء فى هذا اليوم مجرد معركة، بل كانت حربًا فتحت فيها أبواب الجحيم على الجميع.
وصفت صحيفة «الواشنطن بوست» الأمريكية ما جرى، بأنه الأشد قسوة بعد هجوم إسرائيل على الجيش المصرى فى ٥ يونيو ١٩٦٧، لكن الفارق الذى لم تلتفت له الصحيفة الأمريكية أن الجيش المصرى تصدى هذه المرة ببسالة لأعدائه وأعادهم مدحورين.
هل تريدون أن تعرفوا جانبًا مما جرى؟
قالوا إنه تم الاستيلاء على كمين السدرة، فى حين أن ما جرى أن قائد الكمين أحمد الدرديرى قدّم نفسه فداءً للكمين كله، وظل يقاتل حتى استُشهد هو و٣ من رجاله، فتراجع أمام بسالتهم جنود جهنم.
وفى كمين أبورفاعى ظل النقيب الشوباشى يقاتل ببسالة لما يزيد على ٦ ساعات، حتى ارتقى من بين رجاله ١٥ شهيدًا، بذلوا دماءهم فداءً للأرض والحفاظ على الكمين.
أين كان المقدم محمد هارون فى هذه اللحظة؟
بمبادرة شخصية خرج هارون من كمين الجورة، طلب الإذن بالخروج، ولما تأخرت موافقة القيادات، قال لهم إنه سيخرج على مسئوليته الشخصية، فسمحوا له بالخروج.
كان هارون قد أنهى التعامل مع من قصدوا كمينه، ورغم أنه لم يكن من قوات الدعم، إلا أنه قرر أن يخرج ليفتدى زملاءه بحياته.
كانت القيادات تعرف جيدًا ما أعده الإرهابيون من استعدادات كاملة للتصدى لأى محاولة إنقاذ لرجال الكمائن، وكان هارون يعرف أن أى تأخير يمكن أن يزيد عدد الشهداء.
أدركت القيادات أن الجماعات الإرهابية تخطط لاصطياد قيادة كبيرة لتصفيتها، لتبعث الرعب فى قلوب الجميع، وكان هارون يعرف أنهم يريدونه تحديدًا.
قدرت القيادة الموقف وسمحت لهارون بالتحرك، وكان هو قد بدأ فى التحرك بالفعل.
تحرك حتى يساعد فى القتال الدائر بشراسة.
كان يعرف أن أى تأخير فى الحركة لن يكون فى صالح الرجال الذين وهبوا أنفسهم من أجل الموت فداءً للوطن.
وهو يستعد للخروج مرت أمام عينيه مشاهد قاسية يعرف تفاصيلها جيدًا.
رأى أمام عينيه الشهيد المجند أحمد فتحى، الذى تم اختطافه من كمين العبيدات بعد الهجوم عليه وقتله بصورة بشعة.
ورأى أمام عينيه نقيب الشرطة أيمن الدسوقى الذى تم اختطافه وتصفيته.
خرج هارون حتى لا تتكرر هذه المشاهد مرة أخرى.
وصل على وجه السرعة إلى كمين السدرة، لكنه وجد رجاله كلهم شهداء، نظر نظرة إعجاب إلى جثمان الشهيد أحمد الدرديرى وأمر أحد رجاله بأن يظل إلى جواره ليحرسه.
ترك هارون كمين السدرة وراءه وتوجه إلى كمين أبورفاعى، وكان هو أول قيادة عسكرية تصل إلى مقر الكمين، فعل ذلك متحديًا العبوات الناسفة التى كان يعرف أنه تم زرعها على جانبى الطريق، ورغم معرفته أيضًا بأن التكفيريين ينتشرون حول الكمين مثل النمل النهم المتوحش الذى سيبادر بالهجوم على كل من يقترب.
لم تكن خطة الإرهابيين تقوم على الهجوم على كمائن الجيش فقط، ولكن أيضًا على إعاقة وصول أى دعم أو قوات إنقاذ من أى نوع، وكان يعرف أنهم خططوا لذلك جيدًا، ولم يتوقعوا أن يخرج لهم محمد هارون من قلب النار التى أشعلوها حول الجميع.
وصل هارون إلى أطراف كمين أبورفاعى، وهاله ما رأى.
كان الإرهابيون يحيطون بالكمين من كل جانب، رأى بعضهم يحملون جثث زملائهم بعد أن تصدى لهم رجال الكمين الأشداء، لم ينتظر كثيرًا، اشتبك معهم اشتباكًا عنيفًا، أعطى الإشارة لرجاله الذين رافقوه إلى هناك، فبدأت زخات الرصاص تتوالى لتحاصر الإرهابيين من كل مكان، فأفقدهم توازنهم وعبث بالثقة التى كانوا يتعاملون بها.
نجح محمد هارون فى فك الحصار حول الكمين، فقد كانت المفاجأة للإرهابيين مذهلة، لم يتوقعوا أن يتحول المشهد من هجومهم الشرس إلى هجوم أشرس عليهم، اعتقدوا أنه لا يمكن لأحد أن يصل إليهم مهما كانت قوته أو شجاعته، لكن يبدو أنهم ورغم معرفتهم بقدرات محمد هارون، إلا أنهم لم يحتاطوا منه جيدًا.
لم يفكر محمد هارون وهو فى طريقه من كمين السدرة إلى كمين أبورفاعى فى العبوات الناسفة المزروعة فى طريقه.
لم يفكر فى جنود الشر المنتشرين فى كل مكان يصطادون من يحاول التقدم للإنقاذ.
لم يفكر فى أن عبوة ناسفة واحدة يمكن أن تنهى حياته وحياة رجاله وتنهى على محاولة إنقاذ رفاقه.
لو فكر هارون بهذه الطريقة لما خرج، ولما تحرك، ولما صنع أسطورته الخالدة، ثم إنه ليس الرجل الذى يمكن أن يتراجع أو يتخاذل أو يركن فى انتظار ما تسفر عنه الأحداث.
وهو فى الطريق تعرضت مؤخرة سيارته إلى عبوة ناسفة انفجرت فيها، لكنه خرج من الانفجار سالمًا وأكمل طريقه، وتفادى رجاله عبوات ناسفة كثيرة كانت مزروعة فى طريقهم.
كانت خطة هجوم محمد هارون ورجاله خاطفة وغير متوقعة، اعتقد الإرهابيون أن أيًا من رجال الجيش إذا فكر أن يشتبك معهم فلا بد أن يأتيهم من مقدمة الكمين، لكن هارون ورجاله جاءوا من الجهة الخلفية للكمين، فتحققت المفاجأة الكاملة، وهى المفاجأة التى كان لها وقع السحر فى حسم هذه المعركة المقدسة.
يمكن أن نسجل هنا شهادات بعض من رجال هارون، هؤلاء الذين خرجوا من كمين الجورة بسياراتهم وبدبابة كانت تسير برشاقة لا تتناسب مع الجو المتوتر، وإن كانت تتحرك بدافع الثقة فى النصر الذى يعضده الحق فى حماية هذا الوطن.
لكن تظل شهادة الفريق أول صدقى صبحى، وزير الدفاع وقتها، وهى شهادة موجزة جدًا هى الأكثر تعبيرًا عمّا جرى.
يقول الفريق أول صبحى: هذا اليوم حيث العرق والرطوبة والحر والتوتر المكتوم والأعصاب الملتهبة تكاد تنفلت أو تحترق اتصلت بالمقدم هارون الذى جاءنى صوته هادئًا للغاية، رخيمًا دون أدنى انفعال يقول: تمام يا فندم.. كله تمام.
لم يكن هذا هو الاتصال الوحيد الذى جرى بين وزير الدفاع والمقدم هارون.
بعد واقعة الهجوم على الكمائن، كان الفريق أول صدقى صبحى يؤدى فريضة الحج، قليلون من كانوا يعرفون ذلك، هارون كان واحدًا منهم، فوجئ بوزير الدفاع يتصل به، يخبره بأنه تذكره ودعا له أمام الكعبة، وقبل أن ينهى الوزير اتصاله، قال له نصًا: والله يا هارون أنا مش عارف افتكرتك أنت تحديدًا ليه.
يمكن أن تفسر اتصال وزير الدفاع بمحمد هارون تفسيرًا روحيًا بحتًا، فقد تذكره دون أن يدرى لذلك سببًا، لكننى أعتقد أن القيادة العسكرية كانت تدرك أهمية وقيمة رجالها، ولم يكن غريبًا أن تتذكرهم وتدعو لهم وتطمئن عليهم.
لم يكن الفريق أول صدقى صبحى وحده هو الذى يهتم بشأن محمد هارون، كان هناك الرئيس عبدالفتاح السيسى أيضًا، الذى عرف بطولات هارون فى سيناء.
الاتصال هذه المرة جرى وهارون بين رجاله فى الكتيبة ١٠١ بسيناء.
تواصل الرئيس السيسى مع رجله البطل فى سيناء، شكره على ما قام به من دور فى مواجهة الإرهابيين، وبدلًا من أن يتلقى هارون الاتصال وحده فتح سماعة الصوت ليسمع رجاله إشادة الرئيس بهم بأنفسهم، وكان راقيًا جدًا عندما نقل للرئيس أسماء جنوده فى الكتيبة واحدًا واحدًا رغم أن الرئيس لم يطلب منه ذلك.

 

 

تكن بطولات محمد هارون خافية على أحد، لكن أكثر ما كان يميزه أنه لم يكن يحكى لأحد هذه البطولات.
كان يتعامل مع ما يقوم به على أن هذا دوره الذى وهبته الأقدار له، ولذلك كنت ترى هذا البطل فى حياته العامة إنسانًا بسيطًا جدًا ومتواضعًا جدًا، رغم أنه يحمل تحت جلده قصة بطل من أبطال الأساطير النادرين.
ولأن أبناء الحياة المخلصين، هم أكثرهم مطاردة من الموت، كان لا بد أن يرتقى محمد هارون إلى السماء شهيدًا.
لكن قبل أن يرتقى كان لا بد أن تشهد الأرض على نقائه وصفائه وسموه.
وكان هذا بعضًا مما جرى.
فى أعقاب ثورة يناير، وربما بعد أشهر كان محمد هارون فى كمين البعالوة بالإسماعيلية.
الساعة السابعة صباحًا فى أحد الأيام الهادئة التى لم يكن يتوقع أحد فيها شرًا.
فجأة ودون سابق إنذار، تسللت سيارة بيجو «٧ راكب» بيضاء اللون إلى كمين البعالوة، وهو كمين مشترك بين الجيش والشرطة، وتزامل فى قيادته هارون والمقدم إيهاب البحراوى، انخفض الزجاج من أبواب السيارة الأربعة ليبدأ إطلاق الرصاص، وأصبح الموت يحيط بالجميع.
كان هارون يجلس فى مواجهة البحراوى، أصبحت السيارة البيجو تفصل بينهما، ودون اتفاق فتح كل منهما النار على السيارة ومن فيها، التأخير كان يعنى هلاك كل من فى الكمين.
ما رآه الذين شهدوا الواقعة كان مذهلًا، هارون والبحراوى يطلقان الرصاص فى اتجاه بعضهما البعض مركزين على السيارة، كان يمكن لرصاصة واحدة أن تفلت من أى منهما فتصيب الآخر، لكنهما كان يعرفان هدفهما جيدًا.
كانت هذه الواقعة البطولية أحد أسرار هارون، وربما كانت السبب فى انتقاله إلى سيناء ليتولى قيادة كمين الجورة.
بعد ثورة ٣٠ يونيو شهدت مصر انفلاتًا أمنيًا مقصودًا ومخططًا له من قِبل الجماعة الإرهابية وحلفائها.
وكما كان محمد هارون بطلًا فى حياته العسكرية، كان بطلًا فى حياته المدنية أيضًا.
من بين ما جرى على يديه، أنه كان واحدًا من حماة الشوارع، يشهد على ذلك شارع عبدالسلام عارف ببنى سويف، استغل أحد اللصوص حالة الانفلات الأمنى، وأطلق الرصاص على الآمنين فى الشارع، طارده هارون وألقى القبض عليه، ربطه فى سيارته وسلمه بنفسه للشرطة.
امتزجت مشاهد البطولة الطاغية بوقائع الإنسانية المسيطرة على سيرة هارون.
كانت الليلة باردة ومظلمة، أهالى سيناء يشهدون طلعات الطيران الذى يطارد الإرهابيين ويدك أوكارهم، الأهالى بجوار كمين الجورة يتعالى الفزع البادى من عيونهم.
لم يجد هؤلاء الأهالى أمامهم مقرًا آمنًا ومستقرًا مطمئنًا إلا أرض الكمين الذى يتولى هارون قيادته، أسرعوا إليه يطلبون الحياة، كانوا يعرفون أن حظر التجوال بدأ، لكنهم لم يفكروا، قادتهم أقدامهم إلى هناك.
كان جنود محمد هارون يقفون أمام الكمين، يرفعون فوهات بنادقهم فى انتظار أى قادم معتدٍ، لكن هارون عرف أن القادمين هذه المرة ليسوا معتدين، ولكنهم أهلنا أهل سيناء يطلبون الأمان.
أعطى الإشارة إلى جنوده أن يخفضوا فوهات البنادق، ويبدأوا فى استقبال الأهالى والقيام على راحتهم جميعًا.. وأوصى بسرعة إسعاف من تعرض منهم للإصابات.
بين الأهالى الذين بسطت أمارات الأمن ملامحها على وجوههم، لمح محمد هارون طفلًا صغيرًا لا يتجاوز عمره العاشرة، تقدم منه، وحاول أن يقدم له الماء بنفسه بعد أن بدأ فى مداعبته وملاطفته، لكن الطفل فجأة أزاح يد هارون بخشونة غريبة على مَنْ فى مثل سنه.
توقع الأهالى شرًا، بعد أن لمحوا شيئًا من الغضب على وجه هارون، لكنه استعاد هدوءه سريعًا، فقد أدرك بسرعة بديهته أن وراء هذا الطفل قصة، فتصرفه ليس طبيعيًا بالمرة.
استمع هارون لقصة الطفل من بعض الأهالى.
قالوا له إن هذا الطفل ابن أحد أعضاء الجماعة الإرهابية، الذى هرب وتركه وراءه، وقد يكون هذا الطفل أخذ الخشونة من أبيه، الذى قد يكون زرع فيه كراهية الجيش، ضمن ما زرعه فيه من أفكار متطرفة.
تحوّل غضب هارون من الطفل إلى غضب عارم على أبيه.
أدرك أن الجريمة التى تجرى وقائعها على أرض سيناء ليست فى هؤلاء فقط الذين يحملون السلاح، ولكن الجريمة ممتدة، فهم يزرعون الكراهية فى نفوس أبنائهم.
عندما جلس إلى أخيه الدكتور أحمد إبراهيم هارون، فى أول إجازة له بعد هذه الواقعة، أفضى له بمكنون نفسه، قال له وهو غاضب جدًا إنه يعرف سيناء العادات والتقاليد والأعراف، يعرف سيناء الحضارة الممتدة فى قلب التاريخ، فكيف تسربت إليها هذه الروح البغيضة؟
قال محمد لشقيقه أحمد وقتها: أعرف أن المعركة ليس ما نقوم به فقط، نحن نحمل السلاح، ونرفعه فى وجه من رفعوه فى وجوهنا دون وجه حق، تعاهدنا على ألا نترك من يريدون إذلال هذا البلد، فمصر لا يقدر على إذلالها أحد، لكن هناك معركة أخرى أعتقد أن المجتمع لا بد أن يخوضها وبحماس شديد، معركة عقول تواجه ما تم زرعه فى عقول الإرهابيين وأبنائهم.
كان محمد هارون يشفق على هذا الصغير، ضحية الكراهية، وتعجب من هؤلاء الإرهابيين الذين لا يواجهون الحاضر فقط ويريدون أن يقضوا عليه، بل يواجهون المستقبل، ويخططون لقتله، فأى شىء سيكونه هذا الطفل الصغير غير قاتل محتمل فى صفوف القتلة الذين لا يريدون خيرًا لبلدهم.
كان ما جرى مفاجأة للجميع، ليس للأهالى الذين استغاثوا بقائد الجورة، ولكن لأخيه الذى كان يسمع منه ما قاله للطفل.
ظل محمد هارون يتحدث مع الطفل الصغير أكثر من نصف ساعة، كان الكلام بينهما همسًا، لا أحد يستمع إليه، لكن فجأة وجد الموجودون الطفل يضحك بصوت عالٍ، ويداعب هارون، ويرمى بنفسه فى حضنه.
ببراءة وبساطة كبي