الإثنين 6 مايو 2024 مـ 11:03 صـ 27 شوال 1445 هـ
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
رئيس مجلس الأمناء مجدي صادقرئيس التحرير محمود معروفأمين الصندوق عادل حسين

شتات أسرار النفس البشرية فى عرض على مسرح الهناجر

شاهدت مؤخرًا العرض المسرحى «شتات» على مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية، تأليف رشا فلتس، وإخراج سعيد سليمان، وبطولة عدد من الفنانين الذين أقدّرهم، منهم ممثل أعشق خطواته وصوته على المسرح وهو الفنان «ياسر أبوالعينين»، وقد خرجت من العرض مسرعًا دون تعليق، خرجت بتساؤل وحيد، هو تساؤل تداوله المسرحيون مؤخرًا بصيغ مختلفة: هل العرض المسرحى الجيد هو الذى يضع المتلقى طوال الوقت فى مهمة وحيدة هى فك طلاسمه وألغازه المشفرة، وفقط؟، وأحاول هنا إيجاد إجابة لهذا السؤال بالتفكير معكم بصوت عالٍ.

ونبدأ بقراءتى للعرض، الحكاية لأربعة أشخاص محبوسين فى بدروم يحاولون التلاقى والتعايش، لكن صراعاتهم الدائمة الناتجة عن اختلاف طبيعتهم تحول دون وصولهم لنقطة تلاقٍ، ونستطيع أن نعتبر أن نقطة التلاقى فلسفيًا هى دائرة الحقيقة الكاملة، ونفسيًا هى نقطة السلام النفسى، ونستطيع أن نحلل ونقرأ العرض بالإحالة إلى مستويات مختلفة، منها المستوى النفسى، فنجد أننا أمام شتات النفس الإنسانية وصراعاتها الداخلية بين مكونات النفس البشرية وفقًا لعلم النفس «الأنا- الأنا الأعلى- الهو»، وصراعات هذه المكونات «الشخوص» على التفاعل والوجود المنفرد فى الحياة والمجتمع، لكنهم يفشلون لأنهم أرادوا التعامل مع الحياة بشكل منفرد واستحواذى، فنجد «الهو» الشهوانى الغرائزى الذى يتحرك حاملًا سريره أينما ذهب، يتعامل مع الحياة من خلال جسده ورغباته الجنسية فيضاجع الحياة، لكنه بعد انتهاء لحظة اللذة يشعر بالفناء ويصير شتاتًا منتهيًا كالتراب المنثور، ويأتى «الأنا الأعلى» بكل قيمه المتسامية نحو الفضيلة والمثالية حاملًا سُلمه الصاعد إلى السماء أينما ذهب، فيقوم بدور الضمير الذى يؤنب «الهو» ودائم الصراع معه، حين يتعامل مع الحياة يجد نفسه خائفًا منها رافضًا للحظة اللذة والاستمتاع بها متعاليًا عليها فى سمائه، فيسقط من سُلمه أو من سمائه عاجزًا عن التحقق أمامها متعذبًا بمبادئه المتسامية ويصير شتاتًا منتهيًا كالتراب المنثور.. ويأتى «الأنا» فى تعامله مع الحياة وهو المسجون فى سجن العقل البحت القاصر، ويحمل سجنه أينما ذهب، فيعترف بأنه فاقد الإحساس، فهو المسجون داخل المعادلات البحتة والقوانين الصماء فلا يشعر بالحياة من أساسه، هو فقط يصدر النصائح والتوجيهات بالتعايش والتصالح، فهو يدل على الطريق وينيره لكن لا يشعر به ولا يتحقق ويكمل دائرته حتى يعود لنقطة البداية ويصير شتاتًا منتهيًا كالتراب المنثور. كل منهم يحمل طبيعته على ظهره يسير بها منفردًا كالمسيح يحمل صليبه، فيقررون التلاقى والتعايش والتصالح والتوافق وقبول الآخر باختلافاته، وهنا فقط مجتمعين «العقل والجسد والضمير والروح» يستطيعون الدخول فى دائرة النور، دائرة الحقيقة الكاملة، دائرة السلام النفسى، هنا فقط تسير معهم الحياة كأنها الروح الغائبة والتائهة، فيسير الأربعة نحو عجلة توجيه السفينة، وفى هذه اللحظة فقط يستطيعون تدوير العجلة وتتحرك سفينة النفس الإنسانية إلى سلامها النفسى، هنا يتحرك الزمن وتتحقق الحياة فى سلام، ففى لحظة تجمعهم فقط ينتهى الشتات.

وأيضًا نستطيع قراءة العرض بالإحالة إلى مستوى نقد المعرفة الإنسانية كلها وفلسفاتها المختلفة ما بين الفلسفة المادية الجسدية والفلسفة المثالية الأفلاطونية والمدينة الفاضلة والفلسفة العلمانية والعقلية، وافتقاد كل منها منفردة القدرة على امتلاك أو تعريف الحقيقة الكاملة، فتفقد جميعها التفاعل مع الروح الإنسانية ولا تستطيع التعامل معها فتصير كل منها شتاتًا كالتراب المنثور.

وعلى مستوى آخر نستطيع الإحالة إلى الوضع السياسى، سواء الداخلى أو حتى الخارجى، فالصراعات والتناحرات المنفردة بين الكيانات السياسية وادعاء امتلاك الحقيقة والحلول المنفردة مؤداه فى النهاية إلى الشتات، وحله الوحيد هو التعايش وقبول الآخر «السياسى هنا»، وهنا تدور عجلة المجتمع.

هذه قراءاتى للعرض باختصار بكل مستويات الإحالة لدلالاته الدرامية وشفراته الرمزية. بداية نحن أمام عرض مسرحى ليس بنائى المنهج، فالدراما «البنائية» تعتمد بالتعريف على بنائية الشخصيات الدرامية والأحداث الدرامية والحبكة، ولها مراحل بنائية معروفة «بداية ووسط ونهاية» ولها بنائية فى الخطوط الدرامية للشخصيات والأحداث بشكل متصاعد، وهى أساسيات ومبادئ متعارف عليها مهما اختلفت المناهج والقوالب المسرحية، فأساس البناء واحد والاختلافات تكون فى كيفية التعبير الفنى ومنهج العرض المسرحى «واقعى- كلاسيكى- رومانسى- رمزى- تعبيرى- سوريالى.. إلخ».. فالتعبيرية أو الرمزية أو السوريالية أو العبثية.. إلخ، لا تعنى مطلقًا عدم بنائية الدراما.. ففى عرض «شتات» لم يتم بناء الشخصيات الدرامية وفقًا لمنهج البنائية بشكل مكتمل، فلا تكتمل هنا أبعاد الشخصية الدرامية المتعارف عليها «البعد المادى- البعد النفسى- البعد الاجتماعى»، فكل الشخصيات فى عرض «شتات» لم يكن لها أى بعد اجتماعى من قريب أو من بعيد ولا يوجد لها تاريخ للشخصية ولا يوجد لها تجذير حقيقى له صلة بحبكة الدراما، فهى مجرد رمزيات تعبيرية دالة على مَعَانٍ ومدلولات نفسية ومعرفية فلسفية أو فكرية طرحها النص والعرض، والأحداث ليست لها حبكة مكتملة أو مترابطة سببيًا وتصاعديًا فالأحداث هنا مجرد عرض لطبيعة كل شخصية، وبالتالى نستطيع القول إننا أمام عرض ليس بنائيًا. إذن من المؤكد أننا أمام عرض تفكيكى ما بعد حداثى؟، للأسف لا.. فالتفكيكية تهدم وحدة المكان، لكن فى عرض «شتات» المكان حاضر وواحد ومحدد- بدروم- وله خصوصيته الحاضرة بقوة من خلال الديكور، والتفكيكية تهدم بنائية الشخصيات تمامًا وتشظيها وتفتتها لكن فى عرض «شتات» جاءت الشخصيات غير مكتملة البنائية لكن لها حضورها واستمراريتها الدرامية، وهناك فارق بين الشخصية غير مكتملة البنائية وبين الشخصية المتشظية والمفتتة، والتفكيكية تهدم بنائية الأحداث وحبكتها وتراتبها وتصاعدها سببيًا، لكن فى عرض «شتات» الأحداث رغم كونها غير مكتملة البنائية لكنها شبه متراتبة سببيًا بالمعنى والموضوع وليس بالدراما، بداية من شخصيات مختلفة فمتصارعة فغير متحققة منفردة، وبالتالى تبدأ فى التلاقى والتعايش كى تتحقق فى انسجام، وهو بناء به شبه حبكة موضوعية رمزية وليست حبكة درامية، فتجمع الشخصيات فى النهاية كان بسبب عدم تحققهم منفردين فى البداية، والتفكيكية لا تهدف إلى تقديم رسالة موضوعية لفكرة ما وإنما هى هادمة ومفككة لفكرة ما ولا تقدم بديلًا لها، فهى تهدف لنقد المعرفة الإنسانية كافة وبالتالى لن تقدم فكرة معرفية بديلة، فالتفكيكية ناقدة هادمة وليست بانية أو بنائية، لكن فى عرض «شتات» تم تقديم رسالة موضوعية واضحة هى أن التعايش والتصالح وقبول الآخر هو السبيل للخلاص والسلام. فنجد أنفسنا أمام عرض لا هو مكتمل البنائية وفى نفس الوقت ينفى كونه عرضًا تفكيكيًا أيضًا!، فمن ناحية المنهج الفنى جاء عرض «شتات» كشتات منهجى لا حقق البنائية ولا حقق التفكيكية، فهو شتات بينهما.

ومن ناحية موضوعية أخرى غلب على العرض طابع الرمزية الشديدة فى بناء الشخصيات دراميًا، وبالتالى انعكس هذا على طبيعة الحدث المسرحى وطبيعة الرؤية الإخراجية والبصرية للعرض، فكانت انعكاسًا رمزيًا لمعنى «نفسى وفلسفى» كثرت فيه الشفرات والرموز التعبيرية، فوجد المتلقى نفسه فى تحدٍ ذهنى لحل هذه الرموز وكأنه فى مسابقة لحل الكلمات المتقاطعة المشفرة، فاتسمت عملية التلقى بالذهنية العقلية الصماء الجافة، فضاعت معها متعة التفاعل مع العرض عاطفيًا ووجدانيًا، وقبل أن يبادر أحد بالتطوع بمعلومة بأن هناك مناهج مسرحية تسعى فعلًا لكسر حالة الإيهام العاطفى والوجدانى التام للمتلقى، فأحب أن أوضح أن هناك فارقًا بين كسر الإيهام العاطفى والوجدانى التام للمتلقى وكسر وتغييب وطرد إحساس وعاطفة ووجدان المتلقى من الحضور والتحقق والتفاعل خلال التلقى، هذا بالإضافة إلى أن مناهج كسر الإيهام العاطفى التام كانت تهدف فى أساسها للتحريض السياسى والاجتماعى ولا تهدف إلى إلقاء محاضرة فى علم النفس أو علم الفلسفة على المتلقى، فبعد أن وجد المتلقى نفسه فى حالة تسابق ذهنى مرهقة لحل شفرات العرض يجد أن المحتوى الموضوعى للعرض لا يخرج عن كونه تجميعًا لبعض كتب سيجموند فرويد فى نظرية التحليل النفسى مثلًا، أو أمام رسالة اجتماعية أو سياسية مفادها قبول الآخر هو سبيل التعايش.. فالرسالة لم تضف الجديد معرفيًا حتى! فهى رسالة ومحتوى موضوعى تكرر فى العديد من المقالات والكتب، فالعرض لم يضف معرفيًا للمتلقى، والإضافة المعرفية أو الموضوعية المبتكرة ليست شرطًا فى الفن والمسرح، لكن ما أقصده هنا أنه طالما المحتوى الموضوعى للعرض ليس مبتكرًا ولا يُعَد إضافة للمتلقى، فعلى الأقل، بل يشترط فى هذه الحالة تحقق المتعة الوجدانية والعاطفية والذهنية مجتمعة للمتلقى هو السبيل الوحيد للتعايش مع العرض، لكن عرض «شتات» أرهق المتلقى ذهنيًا فى متاهة حل شفراته، وهو ما صنع حاجزًا نفسيًا داخل المتلقى يمنعه من التوحد مع شخصيات العرض المبهمة وغير مكتملة البناء ويمنع حراكه النفسى تجاهها، وبالتالى فقد المتلقى توحده مع العرض وغرَّبه وجدانيًا عنه ومنع متعته الفنية بلا حتى طائل معرفى أو موضوعى مبتكر.

وللأمانة جاءت المتعة والجودة الفنية فقط فى بعض نواحى العرض، أولاها الديكور للفنانة نهاد السيد، وثانيتها الإضاءة للفنان أبوبكر الشريف وثالثتها شخصية الفتاة التى قامت بأدائها الفنانة «مصرية»، فهى الشخصية الدرامية الوحيدة التى كُتبت بشكل مقبول وعُرضت بفنية عالية.

وكلامى هذا لا ينفى امتنانى وعرفانى وشكرى وتقديرى للجهد المخلص والمحترم والمتميز والمختلف لكل فريق العمل إخراجًا وتمثيلًا وباقى المجالات الفنية للعرض.