الأحد 19 مايو 2024 مـ 02:59 صـ 10 ذو القعدة 1445 هـ
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
موقع هدف
رئيس مجلس الأمناء مجدي صادقرئيس التحرير محمود معروفأمين الصندوق عادل حسين

محمد الباز يكتب: إمام التفكير.. نصر أبوزيد فى مواجهة خرافات خطيب الجمعة وعفاريت قحافة

محمد الباز
محمد الباز

- عندما كان طالبًا فى الإعدادية سمع خطيب المسجد يقول «النجوم كانت ذكرًا وأنثى ومارست الجنس» فقال له «هذا كلام متخلف»

- كان يتجول بمفرده لساعات متأخرة من الليل حتى يقابل واحدًا من الجن والعفاريت فى قريته!

كان منطقيًا جدًا أن يكون نصر حامد أبوزيد ما أصبح عليه، المفكر الناقد الذى يُنزل العقل منزله الذى يستحقه، لا يستسلم لما يقوله الناس، يسعى دائمًا إلى البحث عن الحقيقة الكامنة فيما يطرحه الآخرون، فالحياة الصعبة التى عاشها وأراد أن يغلبها ويتغلب عليها، علمته ألا يقوده أحد، بل منحته قوة مكنته من أن يكون قائدًا ومبادرًا وسباقًا إلى تغيير ما لا يقتنع به، وسلحته بجرأة الإفصاح دون أن يخشى أحدًا أو شيئًا.

وهو لا يزال طالبًا فى المدرسة الإعدادية، كان يتردد على مسجد قريته، لا يترك فرضًا، يؤدى الصلاة فى أوقاتها، وهو يصلى الجمعة استمع إلى خطيب المسجد وهو يندد بالسحر باستخدام الآيات التى تتحدث عن النجوم من بين آيات القرآن الكريم.

قال خطيب المسجد إن النجوم كانت ذكرًا وأنثى، لكنهما مارسا الزنا، فلعنهما الله ونتيجة لذلك أصبحت نجومًا.

لم يحتمل نصر هذا المنطق، يروى لنا ما حدث: ربما كنت وقتها صغير السن ومتعاليًا، أخبرت خطيب المسجد أن ما يقوله كلام تافه وغبى، فالنجوم لم تكن يومًا كائنات آدمية قادرة على ممارسة الجنس، لدى سماع الناس ما قلت صدموا، ففى النهاية كنت مجرد صبى يناقش شيخًا، سُئلت: كيف يمكن أن تتحدث مع الشيخ بهذه الطريقة؟

تصور نصر أنهم سيقومون بضربه وطرده من المسجد، لكنهم اكتفوا بأن أخبروا والده بالحادثة، حتى يتولى عقابه بنفسه.

سأله والده عن تفاصيل ما جرى، فقال له: لقد درسنا فى المدرسة أن النجوم لم تكن يومًا كائنات آدمية، فقال له والده: أنت على حق، لن أقوم بعقابك، لكن فى المستقبل كن مهذبًا وأنت تختلف مع الناس.

أدرك نصر أنه على حق عندما لم يعاقبه والده، لكنه لم ينصت إلى نصيحته، ففى خلافه مع خصومه الذين كفروه وفرقوا بينه وبين زوجته لم يكن مهذبًا، بل كان عنيفًا إلى أقصى درجة، وهو ما ألتمس له فيه العذر تمامًا، فالذين اختلفوا معه لم يصادروا أفكاره فقط، بل كانوا يريدون مصادرة حقه فى الحياة.

لم يكن هذا هو الموقف الوحيد الذى حارب فيه نصر أبوزيد الخرافات، فقد وجد نفسه فى قلب معركة أخرى لا تقل أهمية عن معركته مع شيخ المسجد، كانت المعركة هذه المرة مع عفاريت قرية قحافة، فهناك سمع الكثير عن قصص الجن والأشباح، للدرجة التى دفعته إلى أن يتجول بمفرده لساعات متأخرة من الليل فى أطراف القرية وكله أمل فى أن يقابل واحدًا منهم، لكن هذا لم يحدث أبدًا.

الحكاية يرويها نصر بسخرية دالة، يقول: كان لدينا شيوخ يدّعون القدرة على الاتصال بالجن، تتم استشارتهم لدى فقدان أحدهم لشىء ما أو الشك بأنه سرق، وكان يتوسم فيهم معرفة استخلاص المعلومات عن طريق طفل صغير، لأن الطفل يُفترض به البراءة، أما البالغ فلقد لوثته الذنوب.

يومًا ما اكتشف أحد أبناء القرية اختفاء بعض الأشياء من بيته، ولم يكن نصر قد ذهب إلى المدرسة فى هذا اليوم لمشكلة ما بأسنانه، ولأنه كان الطفل المتوفر فى ذلك الوقت، قرر الشيخ أن يستخدمه كمصدر برىء لتوصيل المعلومات، غطى رأسه بطاقية ثم وضع أمامه فنجانًا من الحبر.

يحكى نصر: بعد أن انتهى الشيخ من قراءة تعويذة أو اثنتين، أشار لى بالتحديق فى الحبر، لأنقل له المشهد من قاع الفنجان، سألنى: ماذا ترى؟ كل الطقوس لها نظام واحد، ولم يكن هذا باستثناء، كان مفهومًا أن مشاهدة جنى فى قاع الفنجان هى إشارة البدء للاحتفال وترتيب المقاعد، كان الأطفال دومًا يجاوبون: نعم أراه، فيستطرد الشيخ فى السؤال: كيف يبدو، أما أنا فلم أر شيئًا، سوى حبر لونه فى سواد الليل يشغل حيز الفنجان كله.

ظل الحضور يطالبون نصر بأن يركز، وأن يدقق النظر، وظل الشيخ يسأله: ماذا ترى؟ وكان نصر يكرر الإجابة الوحيدة التى كان على يقين منها: لا شىء.

يختم نصر الحكاية بقوله: كانت فضيحة دون شك، واستمر هذا المشهد لساعات، كان الشيخ الغاضب على وشك أن يضربنى، وبنبرة يأس سألنى: كم عمرك؟ كنت قد بلغت العاشرة فى ذلك الوقت، استمر يحقق معى: هل احتلمت؟ كان يريد التأكد من أننى لم أدخل مرحلة البلوغ الملوثة، فلو كنت بالغًا فلا عجب أننى لا أرى شيئًا فى الفنجان.

كان لا بد للشيخ صديق الجن أن يخرج من الحرج الذى وضعه فيه نصر، فادعى أن الطفل يملك طبيعة غريبة، ينتمى إلى النار، وقد فشلت محاولة الحديث مع الجنى من خلاله.

تعلم نصر من هذه التجربة ألا يقول شيئًا لا يراه، وألا يقر للناس بما يعتقدونه لمجرد قناعتهم بذلك، فهو لا يخدع نفسه أبدًا.

ظلت مسألة الجن تؤرق على نصر منامه، وعندما مات والده كان يذهب إلى المقابر ليلًا، الحجة التى كان يسوقها لمن يسألونه عن سبب وجوده فى المقابر ليلًا أنه كان يريد زيارة والده والجلوس إلى جوار قبره، لكنه كان يذهب إلى هناك لأن معظم أبناء القرية كانوا يؤمنون بوجود جن خطير يعيش فى المقابر، فمنى نفسه بأن يقابله ولو صدفة، ورغم زياراته المتعددة والمتكررة للمقابر إلا أنه لم يحظ أبدًا بمقابلة الجنى المزعوم الذى لم يكن موجودًا أبدًا إلا فى خيال أبناء القرية.

كانت هذه هى معركة نصر حامد أبوزيد مع الخرافة، وهى المعركة التى خرج منها منتصرًا تم تعميده ضد من يروجون الخرافات ويريدون السيطرة على الناس بسلطانها وسطوتها.

المعركة الثانية التى خاضها نصر كانت من أجل رفع القهر والظلم عن كاهل المواطنين البسطاء قدر طاقته وبقدر ما يستطيع.

جرت هذه الواقعة بعد أن انتقل نصر إلى العمل فى القاهرة بعد أن انتظم فى الدراسة طالبًا بكلية الآداب قسم اللغة العربية.

يسوقها بنعومة على جناح جلسته فى قسم شرطة العجوزة عندما كان يردد بينه وبين نفسه أبيات من قصيدة أحمد عبدالمعطى حجازى «مدينة بلا قلب» والتى يقول فيها: بلا نقود جائع حتى العياء/ بلا رفيق/ كأننى طفل رمته خاطئة/ فلم يعره العابرون فى الطريق/ حتى الرثاء.

كان نصر على هذه الحالة عندما دخلت قسم الشرطة امرأة بلا ملامح من غزارة الدم المسفوح على وجهها، تشتكى زوجها لأنه ضربها ضربًا مبرحًا شديد الإيذاء.

يقول نصر: أهملها العسكرى النبطشى، وظلت تنتظر وهى مجروحة ضعيفة قليلة الحيلة، فتحدثت إلى العسكرى الذى قال بكل برود: هو أنت غضبان ليه؟ هو أنت تعرفها؟ قلت: وده يغير إيه فى الموضوع؟ أنت مفروض عليك تاخدها للمستشفى تتعالج وتبعت تجيب زوجها هنا تستجوبه. كنت أحاول بلطف التدخل حتى تستطيع المرأة أن تأخذ حقها، لمعرفتى بأقسام الشرطة، فخففت من حدة النبرة، وذهبت أنا بها إلى المستشفى حتى عولجت، وأخذت التقرير الطبى وأودعته القسم.

بعد يومين أتت المرأة بنفسها لتسحب البلاغ ضد زوجها، وأخبرتنى أنها كانت تريد من الشرطة أن تلفت نظره، وفى النهاية هو والد أبنائها.

سألها نصر: أنت بتحبيه؟

وكأنها لم تفهم ماذا يعنى، قالت: أبو عيالى.

عاد نصر ليسألها: بيضربك باستمرار؟

أجابت: لا أبدًا هو كان غضبان جدًا، لأنه بياع سريح، بيبيع فاكهة فى الشارع والجو حر أتلف له البضاعة.

يعود نصر للحكاية: أردت أن أسألها إن كانت زيارة منى لزوجها يمكن أن تساعد، فقالت: أنت تشرف وتزدنا نور، قلت لها: آتى بشرط موافقة زوجك، زرتهم وأحضرت بعض الفاكهة، كانت حالتهم عدم، عندهم ثلاثة أطفال، وزوجها إنسان محترم، وقد أخبرته عن أخذى لها للمستشفى، بل وعنفته أنه كان عليه هو أن يأخذها إلى المستشفى ليطمئن عليها.

جسدت هذه الواقعة أمام نصر كل معانى القهر، فالزوجة مظلومة وزوجها كذلك، وهما ينتظران فى النهاية من يرفع الظلم عنهما، وهو لا يملك لهما شيئًا إلا بعض كلمات وضعها أمامهما علها تخفف عنهما، وهو واثق أن ما يقوله فى النهاية ليس سوى كلمات لكنه تمسك بها، وجعل رسالته الكبرى فى الحياة هى الكلمة.

لم يكن نصر أبوزيد شاهدًا على القهر والظلم فقط، ولكنه كان أيضًا ضحية من ضحايا القهر والظلم، الفارق أنه كان لا يستسلم، يظل وراء حقه حتى يحصل عليه، ورغم أن المفروض أن يكسبه هذا سعادة، إلا أنه فعليًا أورثه مرارة لا نهاية لها.

عندما أنهى الدراسة وحصل على دبلوم الصنايع، جاءه التكليف للعمل بوزارة المواصلات السلكية واللاسلكية، لكن الوزارة علمت أنه لم يبلغ الثامنة عشرة بعد، ولا تزال أمامه تسعة أشهر ليتمها، فأخبروه أن يعود بعد تسعة أشهر لتسلم العمل، فليست لديهم درجة وظيفية فى الحكومة قبل بلوع السن.

يومها عاد نصر إلى قريته يعتصره اليأس، لكنه فكر أن يبحث عن وظيفة فى المصانع الحربية، وعندما وجد الوظيفة، فوجئ بأن وزارة المواصلات ترسل للمصانع الحربية تخبرها أن عنده تكليفًا ويجب ألا يعين.

كانت الدائرة تضيق على نصر، وصحيح أن المواقف العابرة فى حياتنا يمكننا أن نتجاوزها، لكنه كان يتوقف كثيرًا عند كل ما مر به حتى لو كان صغيرًا.

وهو ينتظر مرور الشهور التسعة فكر أن يسافر إلى القاهرة قاصدًا ميدان رمسيس، حيث «الهيئة المصرية العامة لتعمير الصحارى»، فى طريقه قابل فتى صغيرًا، سأله عن شارع رمسيس، اقترب منه وأمسك بيده ليدله.

ما رأيكم أن أترك نصر يروى لكم ما جرى له؟

يقول: وأدركت أن فتى آخر قد تبعنى، فتشاجرا، وشعرت بفقد ربع الجنيه الذى أحمله فى جيبى، فجريت وراءهما حتى ألقوا بربع الجنيه على الأرض وفرا هاربين.

لن أعيب عليك شيئًا إذا ضحكت وأنت تتخيل نصر أبوزيد ببدانته التى تثقل قلبه وهو يطارد صبيين فى شارع رمسيس لأنهما سرقا منه ربع الجنيه، ولن أعيب عليك وأنت تواصل الضحك عندما ترى السعادة فى عينيه بعد أن وجد ربع الجنيه ملقى على الأرض، لكن عليك أن تستوعب قهر من فى وضعه، شاب فقير وغريب فى القاهرة لا يعرف أحدًا، وفجأة يفقد ربع الجنيه الوحيد معه.

لم يحصل نصر على أى حق من حقوقه فى الحياة بسهولة، كان عليه أن يبذل مجهودًا مضاعفًا فقط ليحصل على حقه الطبيعى.

ذهب إلى وزارة المواصلات وتقدم بشكوى إلى الوزير شخصيًا، طلب منه أن يمكنه من العمل، فصدر له قرار أن يعمل بيومية مؤقتة قدرها أربعة وعشرون قرشًا حتى يبلغ الثامنة عشرة من عمره.

عندما تم تعيينه فى العام ١٩٦١ كان لا بد أن يحصل على تدريب، وخلال هذه الفترة وجد نفسه فى مواجهة قهر من نوع آخر، فقد ذهب للسكن مع أبناء قريته قحافة السابقين الساكنين أمام قسم شرطة العباسية، كانوا أكبر منه سنًا، أعطوه أحقر غرفة فى المسكن، وبدأ استغلالهم له، كانوا يكلفونه بأشياء كثيرة لأنه الأصغر.

تعرض وقتها لما يمكن أن نعتبره عوامل تعرية أخلاقية، فمن خلال شلة العباسية بدأ نصر يدرك عوالم القمار ومساحات الانحلال الأخلاقى التى يعيشون فيها، لكنه استطاع أن يتجنبهم ربما بخلفيته الدينية التى جعلته ملتزمًا، وبخلفيته الاجتماعية، فهو فى النهاية لم يكن قادرًا على مجاراتهم فيما يفعلونه.

رحلة عمل نصر كانت رحلة عذاب مكتملة.

تم تعيينه موظفًا فى وزارة المواصلات، وانتدب للعمل فنى لاسلكى بوزارة الداخلية.

الراتب ستة جنيهات وأربعون قرشًا.

يقطع يوميًا ثلاثين كيلومترًا من محل عمله فى شرطة نجدة المحلة الكبرى إلى مقر سكنه فى قحافة.

يعود متأخرًا.. فلا يستطيع أن يتابع أحوال إخوته، عرض على أمه أن تنتقل الأسرة إلى المحلة حتى تخفف عنه مشقة السفر اليومى، لكنها رفضت، كانت تريد أن تحتفظ بزبائنها، فمن أين لماكينة الخياطة- التى تعمل عليها لتساعد نصر- تجد زبائن فى المحلة.

انتقلت الأسرة إلى المحلة وبقيت الأم قليلًا، لكنها سرعان ما لحقت بنصر وإخوته بعد أن عرفت أن الحياة فى الشقة التى يعيشون فيها لا تطاق، ولا بد من وجودها معهم.

المشقة تكررت مرة أخرى عندما انتقل نصر إلى القاهرة طالبًا فى كلية الآداب.

لكن قبل الوصول إلى القاهرة والاستقرار فيها، كان عليه أن يعبر أكثر من معاناة.

بعد حصوله على الثانوية العامة «منازل» فى العام ١٩٦٨ بمجموع ٧٤ بالمائة، تقدم بطلب رسمى إلى جهة عمله للانتساب إلى كلية الآداب، لكن المسئولين فى وزارة المواصلات سخروا من الموظف الذى يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، ويريد أن يجلس فى مقاعد الطلبة من جديد.

تقدم نصر بأوراقه إلى مكتب التنسيق، وقبل بالفعل كطالب منتظم، لتبدأ مشكلة جديدة، فطالما أصبح منتظمًا فلا بد من الحضور والانتظام على الأقل ٧٥ بالمائة من المحاضرات.

قرر أبوزيد أن يلتحق بقسم الفلسفة، كانت فكرته أنه يمكنه قراءة الأدب العربى بنفسه ولا يحتاج الأمر إلى دخول قسم اللغة العربية حتى يصبح ناقدًا، ولكن الفلسفة تحتاج إلى دراسة أكاديمية دقيقة.

فى مدرج «٨٧» بكلية الآداب بدأت الحقائق تتكشف أمام نصر.

يقول: ما إن بدأ الأستاذ المحاضرة بصوته الرتيب يقرأ من كتاب وأنا دخلت فى نوم، وليس من عادتى أن أنام فى أى مكان، فظننت أن السبب هو وجودى بعيدًا عن المنصة فاقتربت واقتربت حتى وصلت إلى المقدمة، وما إن جلست حتى دخلت فى نوم عميق، ولم أجد النقاش ولا الحوار الذى أنتظره وأتصوره عن الجامعة الحلم، فرسخ فى ذهنى البعد عن قسم الفلسفة.

استقر نصر فى قسم اللغة العربية، لكن ظل حضور المحاضرات يمثل همًا ومأزقًا بالنسبة له، حتى وجد نفسه وجهًا لوجه أمام من يحل له المشكلة، وكان الأمر بمحض الصدفة.

فى محاضرة اللغة الإنجليزية لمحت الدكتورة «نادية عيد» الطالب الذى لم تره من قبل جالسًا أمامها.

قالت له: هل يمكن أن أحدثك بعد المحاضرة؟

فهم نصر ما تريده، قال لها: رؤسائى فى العمل لم يوافقوا على نقلى، وهذا سبب عدم حضورى.

لم يكتف بما قاله، سب رئيسه فى العمل واتهمه بضيق الأفق، فطلبت منه الدكتورة نادية أن يتوقف عن الكلام والسب، وعندما عرف أن رئيسه فى العمل هو نفسه والد الدكتورة نادية عيد هرب من المدرج سريعًا وهو على يقين أن وجوده فى كلية الآداب انتهى تمامًا.

يصف نصر المشهد: جرت فى أعقابى وعادت بى، وقالت: أنت كنت تسب رئيسك فى العمل، وكل واحد من حقه أن يعبر عن مشاعره ضد رئيسه، ولم تعرف أنه والدى، ولكن هل أنت متأكد أن الأمر بيده؟ قلت: بيده أن يذهب بى إلى وراء الشمس، فطلبت أن أكتب طلب نقل وأعطيه لها، فكان قرار نقلى من المحلة إلى القاهرة فى أربع وعشرين ساعة.

كان من المفروض أن يريح هذا القرار نصر تمامًا، فقد أصبح عمله فى قسم العجوزة بالقرب من جامعة القاهرة، لكن متاعب من نوع آخر بدأت، فقد أصابه قرار نقله من المحلة بحالة ارتباك شديدة، فكيف ينتقل بأسرة كاملة فى أربع وعشرين ساعة؟ وماذا سيفعل فى مدارس إخوته «كريمة وأسامة وآيات»؟ وهل سيجد سكنًا بسهولة؟ وإذا وجد فهل سيكون قادرًا على نفقاته وعلى نفقات الحياة فى القاهرة؟

يحدثنا نصر عما حدث: الحياة فى القاهرة كانت صعبة جدًا، نقل الأسرة والعيش على اثنى عشر جنيهًا راتبًا، وأخى محمد مجند بالجيش، وكريمة وأسامة وآيات فى مدارسهم، عدت يومًا متأخرًا وغضبت على الأكل الذى طبخته أمى ولم آكل، فجاءت بينى وبينها وقالت: يا نصر لما تغضب على الأكل قدام إخواتك يتعودوا على كده ويعملوا زيك وأرمى الأكل فى الزبالة، وكله من فلوسك، فشوف أنت عايز تصرف فلوسك إزاى؟

وجد نصر نفسه مضطرًا إلى أن يعيش على الكفاف، وبدأ يحدد نفقاته فى كل شىء.

يقول: بدأت أشرب ثلاث سجائر فقط فى اليوم، وأقتصد فى مصاريف الإفطار والمواصلات، وشعرت بألم الجوع والحاجة مرات.

لم يكن أمام نصر أبوزيد إلا أن يمضى فى طريقه.

ذلك الطريق الذى لم يكن سهلًا أبدًا، فقد كانت تسلمه العثرات لبعضها دون أن يعترض... لكنه كان يحزن، فلم يكن نصر أكثر من حزن مقيم فى الحياة.

غدًا.. كيف كشف نصر أبوزيد خدعة الإخوان المسلمين؟